تحل الغيرة في كل الشخوص والعوالم، لكنها أبدا لا تحل بين الأب وولده، فمهما تفوق الابن على الأب، يظل الوالد سعيدا بهذا التفوق والنبوغ، لأنه يراه في البداية والنهاية قطعة منه.
لكن.. لك أن تتخيل أنني وصفت الوسط الأدبي قديما بأنه الوسط الأدبي الحقود جدا، ولكنني اكتشفت أن جملة الحقود جدا، لا تعبر عن فداحة حقده بالصورة الكافية، فهو حقود بتميز وصدارة وإبهار وتفوق.
نعم سأثبت لك هذا، ففيما ذكرت لك من فرحة الوالد بولده، حينما يتفوق في كل لون وفن ومشهد من مشاهد الحياة، حتى ولو كان ذلك التفوق عليه هو، فإن ذلك يسعده ويبهجه وينشيه ويستحسنه.. إلا في عالم الأدب، فإن الغيرة والشعور بالنقيصة، يمكن أن يجدها الأب في نفسه، لو رأى ولده تفوق عليه.!
لعن الله هذه الوسط، وهذا الميدان الذي بدلا من أن يرفع النفوس، ويرتقي بالأرواح، فإنه يسفل بها ويهوي بتلابيبها في مهاوي الرياح.
الأديب الكبير ألكسندر ديماس، واجه منافسة شديدة لم يحسب لها حسابا من قبل، حينما أصبح ابنه الشاب كاتيا مسرحيـا مرموقاً، وكتب وهـو في الثامنة والعشرين من عمره مسرحيـة غـادة الكاميليا، فـاذا بها تطغى على شهرة كل أعمال أبيه، وتؤثر على بريقها ويصبح ديماس الابن، حديث المجالس الباريسية.. وتتوزع مشاعر الأب الفنان بين الفخر بابنه، والغيرة من نجاحه الأدبي، فيحل هذا التناقض بطريقته العجيبة، فيحتفظ لابنه في قلبه بكل الحب والفخر بنجاحه الأدبي.. ويطلق لسانه اللاذع متشكيـا من عجائب الزمن التي جعلت من هذا الشاب الصغير أشهر من أبيه ! فيقول: لقد أنجبت والدا فتحول إلى ثعبان.. ويرد الابن: لقد كان لي أب فتحول إلى طفل!
وصالونات باريس تضحك لهذه المعركة الأدبية العجيبة، وتتابع بشغف محاولة كل منهما أن يتفوق أدبيا على الآخر، ولا تعجب لما يكنه كل منهما لصاحبه من حب يصل إلى ما يشبه العبادة، ولا لفخر كل منها سرًا بصاحبه، أما في الصالونات الأدبية، فكل منهما يتحدث عن نفسه فقط.
الغيرة من الأب تجاه الابن،لم تكن نعرفها إلا في عالم الأدب اللعين.