نأسى ونحزن ونتندر بما ضاع من الكتب العربية والتراث الإسلامي على يد التتار الذين رموا بالمكتبة العربية في نهر دجلة حتى تغير لونه.
وتظل هذه الحادثة أوحدية في تاريخ المسلمين وهم يعزون أنفسهم بمصابهم الثقافي والحضاري الكبير.
والحق أن تاريخ المسلمين كان فيه أبشع من صنيع المغول بمكتبة بغداد.. فكلنا يعرف ما بلغته الحضارة والوجود الإسلامي في الأندلس من الرقي والتقدم والازدهار المعرفي.. ولا أعرف لماذا تغطي جريمة التتار على جريمة النصارى الإسبان مع أنها كانت أبشع وأقبح وأشد نكاية فقدا وخسرانًا للبشرية والوجود الإنساني كله.
يحلو للبعض أن يسميهم بالأندلسيين، لكنني أصر على تسميتهم بالنصارى الإسبان، للتذكر دائما بأن من فعل هذه الجرائم التي يندى لها جبين البشرية والإنسانية نصارى غير مسلمين.
منذ أيام كنت أقرأ في كتاب (في ميزان الإسلام) للعلامة الراحل محمد رجب البيومي ، وقد ذكر في معرض دفاعة عن نسبة حريق الإسكندرية لسيدنا عمر بن الخطاب فقال: "لماذا لم يبك هؤلاء المغرضون على التراث الإنساني الرائع الذي أحرقه الإسبان حين استولوا على الأندلس، وقد سجل التاريخ أن عشرات المكاتب قد أحرقت عمداً في غرناطة ومدريد وقرطبة وأشبيلية ، وكانت هذه الكتب خيرة ما وجد في أوربا دون استثناء ! وماذا تكون مكتبة الإسكندرية - على نفاستها الزمنية - إذا قيست بما وجد في الأندلس من مكتبات!"
نعم فبعد سقوط الأندلس أمرت السلطات الإسبانية الجديدة -عبر التهديد والوعيد ومحاكم التفتيش- السكان المسلمين بتسليم ما لديهم من الكتب والمخطوطات، وأن عملية جمع الكتب استمرت 7 سنوات، وبعد ذلك أُحرقت الكتب والمخطوطات التي تم جمعها في غرناطة في منطقة باب الرملة، وقَدر كثير من الدارسين الغربيين ما تمّ إحراقه ذلك اليوم بمليون مخطوطة. ذكر ذلك المؤرخ الدكتور عبد الرحمن الحجي
ولكننا الآن وبعد كلام الحجي والبيومي نسوق اعترافات الغربيين أنفسهم ممن جسدوا ووصفوا هول المهزلة الحضارية
الباحث والكاتب الغربي ريتشارد أوفندن - مدير مكتبات البودليان الشهيرة في أكسفورد والمسؤول الـ25 الذي يشغل المنصب التنفيذي الأول في مكتبة جامعة أكسفورد منذ عام 1987م- كان له مؤلف ثمين سجل فيه هذه الجرائم البشعة للنصارى الإسبان ضد العلم والمعرفة وسمى هذا الكتاب (إحراق الكتب: تاريخ الهجوم على المعرفة) -الصادر حديثا بنسخته العربية عن الدار العربية للعلوم ناشرون- حيث يروي فيه أنه كان هناك أكثر من 70 مكتبة في إسبانيا الإسلامية، ولم يعرف العالم أمة أحرقت كتب غيرها من الأمم أكثر من إسبانيا.
وأبدت المستعربة الإسبانية الدكتورة كارمن رويث برافو تحسرها على فقدان تلك المعرفة، وتقول إن ذلك "أثّر في ذاكرتنا وتجربتنا الجماعية تأثيرَ المأساة والفقدان".
وتضيف "تمّ إحراق كتب عربية في غرناطة من قِبل الضباط في الجيش المنتصر على المملكة الأندلسية في 1492م، وما يزيد على خطورة العملية ومأساويتها أنها تمت بعد توقيع اتفاقية وعدت باحترام حقوق الغرناطيين الدينية والثقافية".
وتابعت "نعرف أنَّ كثير من الكتب النفيسة النادرة العربية الأندلسية أُرسلت إلى الخارج وبيعت، كما بقي بعضها في المكتبات المؤسساتية الرسمية، كمستشفى غرناطة الملكي، أو في مكتبات خاصة لأشخاص ذوي مكانة وقوة وثقافة نهضوية".
وبينت كارمن برافو في -تصريحها للجزيرة نت- أنه "مع مرور الزمن تبنّى حكام إسبانيا نمطا من الثقافة السلطوية ازداد استبدادا ومبالغة في الوحدوية، إلى حد أنهم منعوا استعمال اللغة العربية، كما منعوا امتلاك الكتب أو المخطوطات المكتوبة بها.. وبقيت الثقافة الإسبانية على هذه الحالة إلى بداية القرن الـ18".
وبدوره، يؤكد المستعرب فيراندو فروتوس -للجزيرة نت- أنه من المعروف أن الكاردينال سيسنيروس الإسباني -وهو أمين سر الملكة إيزابيلا- أمر في عام 1500م بإحراق ما يزيد على 4 آلاف مخطوطة عربية ذات طبيعة دينية وتاريخية وشعرية محفوظة في غرناطة، ولم يستثن منها سوى ما يتعلق بعلوم الطب.
ويتابع "رغم كل ما حدث في تلك الحقبة من الزمان -من الاعتداء على المسلمين وعلى لغتهم وعلى ثقافتهم- فإن الثقافة الإسبانية اقترضت من الثقافة العربية عناصر وجوانب مهمة".
وأريد أن أسجل من هنا أن الغرب الذي يتهمنا اليوم بأننا أعداء الحضارة، إذا نظر إلى تاريخه وتجنيه على مصادر المعرفة لعرف وأدرك أنه العدو الحقيقي للحضارة الزاهية، وأن هذه الأمة التي يتجنى على تاريخها بالتشويه، كان تاريخا لامعا مدهشا قدم الكثير والكثير للإنسانية، ولكنهم قابلوه بالجرائم التي يتناسونها اليوم.