هناك تيار يعمل في الخفاء يصر على إيقاظ الانتماء للعامية المصرية في مواجهة اللغة العربية الفصحى.. ويضخم الأمر ويريد أن يجعل منه قضية وطنية كبرى، وهذه الزمرة التي لا تفقه معنى الانتماء، تتصور أن مصر لها سمتها وذاتيتها وشخصيتها التي يعيبها أن تتبع فيها لغة العرب وتقيم لها وزنا وتنشئ لها اعتبارا.. وغاب عنهم أن هناك دين تسقط معه وأمامه أي اعتبارات وتحسبات.
وهؤلاء لولا أن دين البلاد هو الإسلام وكتابه القرآن لتنصلوا منه وتنكروا له.
إنهم لم يجدوا طريقة لرفض العربية وإعلان شخصية مصر حسب رؤيتهم، إلا عن طريق الفن والمسلسلات التي تصل إلى كل بيت عبر الشاشات والفضائيات.
نعم لتنزل اللغة العامية المصرية وتكون أداة التعبير لكل شيء، حتى المسلسلات التاريخية، تحذف منها اللغة العربية، وتحل العامية المصرية محلها، وما درى هؤلاء أنهم يقضون على الجمال ويرفضون الحسن والإبداع والذوق والفن الذي يعتمده إيقاع العربية وموسيقاها اللفظية، والتي لا يمكن أبدا للعامية أن تحل محلها أو تعبر بشيء من جمالياتها.
كان هناك إصرار كبير في العام الماضي على إخراج وإظهار مسلسل الإمام الشافعي باللغة العامية المصرية، فماذا كانت النتيجة؟
فشل المسلسل فشلا ذريعا ولم يستطع أن يعبر عن الإمام الشافعي ومكانته أو عصره أو حراكه العلمي بالشكل المطلوب.. وكل من يكابر في هذا ويزعم بنجاح المسلسل فهو يخدع نفسه.
لا يمكن للغة المصاطب والشوارع والحواري أن تعبر عن قيمة تراثية علمية فكرية، وحينما نعلن عن هذه الآراء نجد بعض الحمقى يصدر لنا في جداله كلمة (مصر) أي أننا نمتهن مصر وتراث مصر وأدبيات مصر وفلكلور مصر، ويحاول أن يصورنا بأننا لسنا وطنيين، ولا أعلم ما دخل مصر بالأمر أمام الفن والجمال والابداع.
بل ان أمثال هؤلاء هم أبعد ما يكونون عن الوطنية لأنهم يفرطون في لغة العقيدة التي يؤمن بها هذا الشعب.
وأنا أقسم أن اللغة العامية ضد الابداع وضد الجمال، وأنها فاشلة فشل ذريعا في التعبير عن مضامينه التي تتاح للعربية الفصحى على أوفى ما يكون.
كانت هناك في العام الفائت من رمضان آلة إعلامية عجيبة تصر أن تجعل من الممثل خالد النبوي عبقري زمانه وأسطورة مكانه، وأن هذا العبقري الموهوب سيمثل ويجسد شخصية الإمام الشافعي، وأنه أظهر الشافعي وأتقن دوره على أوفى ما يكون.
أما أنا فأقسم أن الفتى الممثل كان متكلفا متصنعا لا لون له ولا طعم، فاتر بارد، وأنه أفسد شخصية الإمام الشافعي التي يتخيلها وجداني، فلا أعلم لماذا هذا الإصرار على أنه عبقري وملهم وموهوب وفريد ومتميز وفلتة وغير ذلك من الخداعات والأكاذيب الإعلامية.
ويمر عام ويأتي هذا العام ليخرج مسلسل الحشاشين بنفس اللغة العامية المصرية المتعمدة، وأنا أكرر وأهيب وأندد بهؤلاء المساطيل، ما علاقة الاعتزاز بمصر كوطن وبلد في نفس كل مصري، وبين عزل اللغة العربية عن التعبير؟!
ولاشك أن المفتعل لمثل هذه الشقة الغائرة جاهل مأفون ساذج أبله.
إن هذا التصور لا يقوم عليه إلا عدو لعقيدة هذا الشعب ودينه وقرآنه الذي نزل باللغة العربية الفصحى، وإن تمحية اللغة من قيادة الحوار الفني إعلان كبير بالفشل، يقف وراءه عناد أحمق لعقول لا تحسن الذوق والفهم والفن.
منذ أيام خرج الناقد الفني الأستاذ طارق الشناوي، ليضحك على نفسه أو يضحك على الناس حسبما يرتئي إذ يقول: "لن يؤثر الحوار باللهجة العامية المصرية على مسلسل "الحشاشين؛ لأنه ليس هناك قاعدة، مشيرا أن الناس من اعتادت على تقديم الأعمال التاريخية والمسرحية باللغة العربية الفصحى، كما اعتقدوا أن هذا هو الصحيح فقط، لكنها ليست قاعدة، وأن نجوم الأعمال التي تقدم باللهجة المصرية لم يرتكبوا أي خطأ".
ويقول كذلك: «إحنا توارثنا ده، لكن هل ده هو القاعدة؟ هل هذه هي الحقيقة المطلقة؟ الحقيقة لأ"
وهكذا تتحول القصة في اعتباره إلى مجرد تعود وتوارث يمكن أن يتغير ولا نقبع أسرى لتقليد قديم، منحيا ومعطيا ظهره لعوامل الجمال والحسن والابداع والإثراء الذي تتفجر به اللغة العربية وتعطي للعمل التاريخي رونقا خاصا وتزيده اعتبارية في القدم.
ولو أننا قسنا على كلام هذا الناقد الفني فكان يمكن لنا أن نهمل المظاهر الدالة على هذا الزمن العتيق من الأبنية والملابس والطرقات ونستبدلها بالتطور في المظاهر الحديثة، لا شك أن هذا سيقابل بالرفض لأنه ينفي عن الحقبة التاريخية طبيعتها القديمة، وأنا أرى كذلك في اللغة حينما تتغير تنفي عن الحقبة التاريخية سمتها وطبيعتها ورونقها وعبقها.
ثم إنني أشعر بتساؤل يقفز به حلقي وهو ان مخرج المسلسل اسمه (بيتر ميمي) أي أنه مسيحي، فهل يمكن أن يكون لذلك أثره في إقصاء اللغة العربية لغة القرآن من المشهد، أم أن هذا التساؤل مجرد ظن بعيد كل البعد عن المشهد والحالة؟!مع أن كثيرا من المسيحيين كانوا يعتزون باللغة العربية ويتذوقون فنونها ويتشربون جمالياتها..
ان عملا تاريخيا يعمد إلى العامية ويلغي العربية فهو كم يقدم شهادة وفاته مسبقا ولا يجد من يكبر حتى عليه.!