كتبت مقالا بالأمس عن الفرق بين الأستاذ توفيق الحكيم والدكتور يوسف إدريس، وذكرت فيه أنني مع هذه القضية الساخنة أقدم كلام العلامة البيومي، ليكون المظلة التي تقيني لسع المخالفين، او كالقبة الحديدية التي تحميني من راجماتهم الصاروخية. ولقد دافع بعض أصدقائي عن الدكتور إدريس نافيًا كلام البيومي، وأن الرجل صاحب فكر قويم، شهدت بذلك كتبه الأخيرة.
والحق أن الرجل بما دلت عليه آثاره، وما ترك من ذكراه، شيء واهن باهت غثاء في دنيا الفكر.
لقد كان الدكتور إدريس ممن قاموا بمهاجمة الشيخ الشعراوي، وكانت له معه معركة، ولكنها كانت من طرف واحد، فما كان الشعراوي ليغرق نفسه، ويجعل منها طرفا في معركة مع من لا شيء، أو أن يقيم ذكره مع من هو دونه، ليجعل له قيمة.
ويبدو أن الغلو قد ساق الدكتور إدريس لأبعد مدى من فجور الخصومة، حينما قام باتهام الشيخ الشعراوي وتكفيره له وأنه كراسبوتين الدجال الروسي الذي ضجت من شره السماوات والأرض.
وعرّض بسمعة الشيخ ونزاهته وادعى أنه لا يقنع إلا العقول البسيطة بينما أمثاله يتعالون عن منطقه، وذكر أن الدولارات تملأ خزائنه دون حساب، و أن الشيخ نصف ممثل موهوب.
كان يوسف إدريس فيما فعل، يذكرني بما حدث قريبًا حينما أقدمت ممثلة إغراء تافهة، بسب لاعب الكرة الشهير المحبوب محمد أبو تريكة، فلم تتوقع موجة السخط العارمة التي أفقدتها جماهيريتها وتعرضت للنقد العنيف من كل مكان، فسارعت صاغرة لتدرك نفسها وتعتذر، وهذا تماما ما حدث مع يوسف إدريس حينما وصف الشعراوي براسبوتين، وقد كانت هذه الهنة والسقطة التي وقع في شركها يوسف إدريس حينما سجل كل ذلك في كتابه فقر الفكر، فأهاج عليه الدنيا قاطبة، وفوجئ بما لم يكن يتخيله أو يتوقعه، فلم يتلق الهجوم من الشعراوي نفسه، وإنما من طبقات الأمة على اختلاف مشاربها ومثقفيها، من رجال الفكر وأساتذة الجامعات ونواب الأمة من الوزراء والمحاماة والأطباء الكل هاجمه وعدوه ساقطًا في كل ما قال من افتراء وزيف.
ولم يرد عليه الشيخ بكلمة واحدة وقابل هجومه معتصمًا بقول الله: ( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ (الفرقان: (٦٣).
كان صمت الشيخ أمام هجمات إدريس يزيد من جنونه وسعار حقده، ويكثر من استفزازه، يتمنى أن يرد عليه الشيخ، حتى يتبدى للناس أنه بطل أمام بطل، وأن هناك معركة بين النور والظلام، بين الرجعية والتخلف، حسب ما حاول إيحاءه وتصويره
رأى إدريس نفسه أنه قد تورط، وركبه الشطط فيما ادعاه من إفك وافتراء، وأن الدنيا كلها تبصق عليه وتنبذ فعله، فاضطر مجبرًا على الاعتذار، ولكنه الاعتذار الذي أضحك عليه الدنيا كلها حينما كتب في بيان نشره يقول فيه للناس: "إن المطبعة قد زادت كلمات لم يكتبها، وأنه فوجئ بها في الكتاب !!"
كان العلامة محمد رجب البيومي ممن دافعوا عن الشيخ وسجلوا هذه الواقعة فقال: "وهذا من أضحك ما يقال، فالمطبعة تخطئ في إسقاط حرف أو تكرار كلمة أما أن تكتب اسم راسبوتين وترمي الشيخ بابتزاز المال من كل جهة، وبقيادة البسطاء لا العقلاء، فأي مطبعة هذه تلك التي تشارك المؤلف أفكاره، بل تفرض عليه ما لم يقل ؟!"
وفي رده على شبهة التلقي قال " وكلام الدكتور لا يلمس نقطة علمية واحدة يجادل فيها الشيخ، ولكنه محض افتراء؛ فالشيخ أولا لا يُقنع البسطاء من الناس وحدهم، ولكن ذوي العقول المستنيرة قد عكفوا على أحاديثه، وتناقلوا آراءه بحيث أصبح مجدد الإسلام في الربع الأخير من هذا القرن."
وأما ما ذكره من أموال وكأن الشيخ قد نهبها نهبًا من إدارة حكومية كان يرأسها، ولم تكن مما رزقه الله به لينفقه في وجوه الخير ويغيث به بلاء الناس.
قال البيومي: "أما المال الذي يأتي إلى الشيخ من كتبه وإذاعاته، فليته كان أكثر مما جاء؛ لأن الشيخ وزع الكثرة الكاثرة منه على الفقراء والمنشآت العلمية والمُجمَّع الذي يشمل الثقافة والطب والعبادة في بلدته، والموائد والتبرعات التي لا تقف عند حد، ولو كان يوسف ادريس وطنيا صادقًا لحمد للشيخ بذله الآلاف لمواطنيه ولدعا الأغنياء إلى الاقتداء به، فإذا عارضه فكريًا فلا بد أن يؤيده سلوكيًا، ولكنه يريد أن يهجم دون دليل غير الافتيات، لم يتراجع يوسف إدريس لينصف الشيخ؛ فهذا ما لا يطرق له ببال، ولكنه تراجع بتبرير مضحك؛ لينقذ نفسه من صيحات الاستنكار التي رمت به في هوة الاستخفاف، ولست هنا أتجنى عليه، ولكني أسجل ما كان"
ثم ذكر مولانا البيومي ما يجب أن يتذكره كل من يدافع عن الدكتور إدريس، فقد كان من غلاة التغريبيين وخصوم الإسلام فهو الذي قال دون خجل أو حياء، شأنه في هذا شأن كل المارقين: " إن الإسلام سر التأخر الملموس في دول الإسلام، وأن الإسراع بالرقي لا يكون إلا عن طريق النهضة الفكرية في أوروبا"
هكذا كانت المعركة، وهكذا كان الدفاع، وهكذا كانت التبرير المضحك.