كان أبي رحمه الله يضيق ذرعا بما لمحه من سلوكي في صباي من حالة الهوس الموغل في شراء الكتب، فإذا به يوجه إلي نصيحة كانت بمثابة تنبيها، ومفاجأة لم أكن أتوقها أو أتنبه إليها حينما قال لي:
إذا اشتريت كتابا فلا تشتري غيره حتى تحفظ ما فيه، فإذا انتهيت منه واستوعبته حفظًا وفهما أقبل على غيره.
لم يمنعنى رحمه الله من شراء الكتب، ولكنه أرشدني إلى طريقة مهمة وفاعلة في التعامل الجيد مع المعرفة.
وقد صدقت الأيام قوله، ففي مكتبتي إلى اليوم كتب قد اشتريتها منذ صغري ولم أقرب صفحاتها، وأحسبني سأموت غير ملتفت لها، لأنني جمعت كتبا تفوق عمري بأعمار عديدة.
كان يمكن له أن يقول لي: وهل ستقدر على قراءة هذه الكتب؟ لكنه لم يفعل، لأنه يعلم طبيعتي كصبي متمرد يهوى التحدي أحيانا، لكنه كان بصيرا فهذا التحدي لن يثمر الثمرة المرجوة من قراءة الكتب، والتي لن تكون إلا مجرد قراءة عابرة غير متمعنة وفاحصة ومفيدة، لأنني أريد أن أثبت له أولا أنه قد خسر التحدي وقد عدوت على كل الكتب فقرأتها.
ولا أعرف هل فقه أبي هذا السلوك بحكمته وبصيرته، أم أنه قرأ ما أدركه الإمام أبو حامد الغزالي يوما ورواه عن نفسه فيما يشابه هذا الأمر، فقد ذكر في الإحياء أنه هاجر إلى بلدة اسمها جرجان، ليتلقى العلم فيها عن شيخ اسمه الإمام أبي النصر الإسماعيلي، وبعد سنوات أمضاها في الدرس جمع كل ما تعلمه على يد الشيخ في عدة كتب وضعها في مخلاة وحملها مع أمتعته وركب مع قافلة راجعة إلى بلدته طوس، وفي الطريق اعترضته جماعة من اللصوص المسلحين، فأخذوا منه مخلاته التي فيها كتبه، ظنا منهم أن فيها نقودا ومتاعا، وساروا في طريقهم، فتبعهم الإمام الغزالي فالتفت إليه كبيرهم وقال: ارجع ويحك وإلا هلكت.
فقال له الغزالي: أسألك بالذي ترجو السلامة منه أن ترد علي تعليقتي فقط؛ فما هي بشيء تنتفعون به، فقال وما هي تعليقتك؟ فقال كتب في تلك المخلاة هاجرت لسماعها وكتابتها ومعرفة علمها.
فضحك اللص وقال: وكيف تدعي أنك عرفت علمها وقد أخذناها منك فتجردت من معرفتها وبقيت بلا علم، ثم أمر أصحابه فسلّموا إليه المخلاة.
وساعتها قال الغزالي لنفسه حين سمع جواب شيخ اللصوص: هذا مستنطق أنطقه الله ليرشدني في أمري، فلما وافيت بلدتي، أقبلت على الاشتغال بكتبي ثلاث سنوات، حتى حفظت جميع ما كتب فيها، فصرت بحيث لو قطع علي الطريق لا أتجرد من علمي.
كثيرون من يقرؤون الكتب للتسلية، ثم تراه متفاخرا بأنه قرأ من الكتب كذا وكذا.. ولكن لو سألناه : ماذا وعيت وحفظت منها أو تتذكر من مضمونها، فهل يجيب بما يبعث على الفخر ، تماما كفخره بمرور عينه عليها؟!
ربما تعلن عن عدد الكتب التي قرأتها..
لكنك لا تعلن كثيرا عن حجم المعرفة التي وعيتها.
فرجاء لا تقل لي بعد اليوم قرأت كذا وكذا، ولكن قل لي: أفدت كذا وكذا.