على عتبة الظلال، حيث تتراقص شموع الأمل الخافتة، ارتجفت ريشة البجع الذهبية. لم تكن مجرد أداة؛ كانت همسًا من الأزل، حارسًا لأسرار لم تبح بها الشفاه بعد. كلما تنفسّت دخانًا أبيض خفيفًا، كأنفاس روح قديمة، بصمت أحرفًا من نور على الورق الشاحب، ساردةً حكايا الزمن الموغل، ومذكرات الراحلين.
الكاتب، ذو الشيب المبكر والعيون الغائرة، كان يرقبها بشغف مريض. قضى لياليه ساهرًا، ينحت بها مصائر أبطال لم يولدوا، ينسج من خيوط الدهشة نسيجًا روائيًا يلامس نخاع الروح. لم يملك سوى الريشة، وشموعًا تتآكل، وزهورًا ذابلة تشاطره وحشة القبر. كل كلمة خطّتها كانت نبضًا متصاعدًا من قلبه، وكل سطر أثرًا موشومًا بخيبة أو ظفر.
في تلك الليلة العاصفة، حيث الرياح تعزف سمفونية الرعب على النوافذ، تثور الريشة دخانًا كثيفًا. الأحرف تتراقص بجنون، ترسم صورًا لم يشهدها قط: وجهٌ مألوف، ثم اسمٌ، ثم تاريخٌ. ارتجف جسده كنحول غصن، واتسعتا عيناه كهاويتين وهو يقرأ. لم تكن رواية ينسجها خياله، بل كانت سيرة حياته هو! طفولته الضائعة، حبه الأول الذي تلاشى كسراب، أحلامه التي تهاوت كقصور الرمل.
كل سطر كان نصلًا حادًا يغوص في صدره، يمزق أستار النسيان عن ذكرياتٍ موحشة بالألم. وعندما بلغت الريشة السطر الأخير، توقفت، متألقةً بدخانها، ثم اغتالتها الظلمة. على الصفحة، خُطّت آخر كلمتين كوصية القدر: "نهاية الكاتب".
في تلك اللحظة، لم يشعر الكاتب ببرودة الغرفة، ولا بقسوة الرياح. الصمت الابدي كان يهيمن. مدّ يده المرتعشة إلى الصفحة، ولمس الكلمات الأخيرة. تنهد تنهيدة عميقة، ثم انحنى على المكتب. ريشة البجع الذهبية لم تعد على الورق، بل انطبعت وشماً أبديًا على كفّه المرتعش، كأنها خاتمة الكون.
الآن، هو نفسه بات حكاية، كُتبت بمداد من الزمن، وريشة من الفناء. والشموع ما زالت تحترق، تلقي بظلالها على صفحة فارغة، تنتظر كاتبًا جديدًا، وريشة أخرى لتخطّ بها قصةً لم تُرو... بعد.