على رصيف زمن عاجز، حيث تتآكل الأجساد وتتبدد الأحلام كرماد سيجارة عابرة، وقف مرزوق. لم يكن اسمه سوى وصمة بؤس التصقت به. جسده النحيل كان خيطًا رفيعًا يرقص على إيقاع جوع مزمن. يداه، كغصني زيتون يابسين، تتشبثان بجمجمة مثقوبة بأسئلة لاذعة، بينما قبعته البالية، التي بالكاد تغطي صلعته المترامية، تشهد صامتةً على سنوات اغتالتها قسوة الأيام.
في عينيه الغائرتين، سكنت مدن مهجورة، ومرافئ تحطمت عليها سفن الأمل. كان يتجول في شوارع الحياة، خطواته الواسعة المترنحة أشبه بمخلوق أسطوري خرج للتو من لوحة فنان بائس. كان حذاؤه، كاللغم المدفون تحت قدميه، يحمل وزر كل خطوة ثقيلة، وكل صرخة مكبوتة، وكل حلم وأدته الليالي الطويلة.
كان مرزوق يرتجف، لا من برد الشتاء القارس، بل من حمى فقدان لا تشبهها حمى: كرامته المسلوبة ومعناه المفقود. تارةً يشد قبضتيه على رأسه كمن يحاول إيقاف دوامة أفكار مجنونة، وتارة أخرى يرمق الفراغ بنظرة متعبة، كأنه يبحث عن إجابة لم يجدها قط.
في تلك اللحظة، رنّ هاتف قديم في جيبه الممزق. "نعم؟" تمتم بصوت يائس، يتوقع المكالمة المعتادة لرفض طلب عمل أو طرد من مأوى مؤقت. لكن الرد هذه المرة اخترق رتابة أيامه: "مرزوق؟ أنا مريم، ابنتك... وجدتك! لقد قُبل طلبك في برنامج إعادة التأهيل، ويمكنك البدء بحياة جديدة معنا غدًا. انتظرني عند المحطة في الصباح الباكر."
تجمد مرزوق. مريم؟ ابنته التي افترق عنها منذ عقود، وظن أنها ماتت في غياهب النسيان، فكانت كالاسم المحفور على شاهد قبر مهجور. ابتسامة باهتة تسللت على شفتيه المتشققتين، أشبه بضوء خافت في ليل دامس، لا يصدق أن هذا صوت ابنته الحقيقية. تنهد مرزوق تنهيدة عميقة كادت تقتلع روحه من جسده الواهن، تحمل ثقل الماضي ووهج الأمل الخاطف للمستقبل.
أغمض عينيه محاولًا استيعاب حجم المفاجأة، صورة ابنته الوحيدة التي ظنها ضاعت إلى الأبد. وحين فتحهما، لم يجد سوى الفراغ. الجسد المنهك الذي كان قبل لحظة يترنح على حافة الوجود، اختفى. لم يتبق سوى القبعة الملقاة على الأرض، وبجوارها، وُجدت ورقة صغيرة مطوية بإحكام. فتحتها الريح، لتكشف عن كلمة واحدة مكتوبة بخط يد مهتز: "انتهى".
دعوة مريم لحياة جديدة أيقظت في أعماق مرزوق عهدًا قديمًا: ألا يكون عبئًا على أحد، خاصة أحبابه. فماذا يملك ليقدمه لابنته سوى بؤسه ومرضه؟ كان يخشى أن يكون شبحًا يلاحق سعادتها. لقد اختار مرزوق حياته الجديدة حقًا، ليس بالعبور إلى عالم آخر، بل بالتحرر من قسوة هذا العالم وماضيه. هذه "الحياة الجديدة" لم تكن سوى نهاية لوجود لم يعرف إلا الألم. صار جزءًا من العدم الذي طالما راوده، عائدًا إلى اللا شيء الذي جاء منه، تاركًا خلفه قبعة وكلمة: "انتهى". نهاية اختارها كطوق نجاة لابنته من شبح ماضيه.