مدّت يدها نحو المرآة العتيقة، لا لترى انعكاسها، بل لترنو إلى فجوة، محاولةً اختراق حجاب وهمي يتخطى خطوط الزمن على محياها.
في كل مساء، حين يُسدل الظلام ستائره الثقيلة، كانت تتسلل إلى غرفتها، حيث المرآة المستديرة التي ورثتها عن جدتها. همست الجدة ذات يوم، بصوت يلفه الغموض، أنها "بوابة الأرواح". تأرجحت الفكرة بين كونها خرافة وتصديقًا.
الليلة، كان الشوق إليها لا يُطاق. وجهها في المرآة كان ضبابيًا، تحجبه غشاوة الذكريات الكثيفة، كأنما ملامحها الغضة وضحكاتها المندثرة تستعد للتبلور من خلف الحجب. دفعت يدها، لا لتلامس السطح البارد، بل لتجتازه. شعرت بلسعة خفيفة، ثم اكتسحها دفء غامر وكأنها تغوص في رحم سائل دافئ.
في تلك اللحظة، اضمحلت غرفتها. اختفت الجدران، وتلاشت الألوان. وجدت نفسها في حديقة غناء، تزهر فيها أزهار بألوان لم ترها عين، وتصدح طيور بألحان لم تطرق سمعًا. كانت ترتدي فستانًا أبيض ناصعًا، خفيفًا كالحلم، تداعبه نسمات رقيقة. ركضت بين الأزهار، والبسمة تعلو شفتيها لأول مرة منذ أمد بعيد.
ثم لمحته. كان يقف تحت شجرة ياسمين، يرقبها. ملامحه كانت جلية، لم يمسسها غبار الزمن، وكأنما خُلق لتلك اللحظة. ركضت إليه، ورمت بنفسها بين ذراعيه، وكأنها تعود إلى وطنها بعد غربة طويلة. همس في أذنها بكلمات لم تتمكن من استعادتها في عالم اليقظة، لكنها هنا، انسابت إلى قلبها كجدول ماء عذب.
غمرها سكون لم يعرفه قط. تمنت لو يتوقف الزمن عند تلك اللحظة، وتبقى هنا إلى الأبد. تبخرت هموم عالمها السابق وأحزانه. فقط هي وهو، يتشابكان في أبدية الحديقة.
فجأة، انتابتها برودة شديدة، تلاها ضوء ساطع أعمى بصرها. فتحت عينيها لتجد نفسها أمام المرآة. كانت يدها لا تزال ممدودة، تلامس سطح الزجاج البارد. لكن هذه المرة، لم يكن انعكاسها هو ما تراه.
كانت المرآة فراغًا يبتلع كل ضوء. ثم، من العدم، تشكلت كلمة واحدة على سطحها الأسود اللانهائي، محفورة بدماء سوداء: "أهلاً بكِ في الجانب الآخر."