يجثمُ، كعادتهِ، يرمقُ الأفقَ بعينينِ تلتهمانِ اللازوردَ. الشمسُ تلفظُ أنفاسَها الذهبيةَ الأخيرةَ فوقَ اليمِّ، والسماءُ لوحةٌ من زرقةٍ مثقلةٍ بهمِّ الانتظارِ. كتابٌ، مطروحٌ على ركبتيهِ، صفحاتُهُ جامدةٌ، كصمتِ المكانِ المُرتقبِ.
في غسقِ يومٍ، حينَ انقشعَ الشفقُ الناريُّ، نقطةٌ سوداءُ لاحتْ. نمتْ ببطءٍ على صفحةِ الماءِ، تدنو من الضفةِ التي ألفها. ألقى الكتابَ، ورمقَ القادمَ بفضولٍ مسمّرٍ.
اتضحتِ الرؤيةُ: زورقٌ صغيرٌ يشقُّ الماءَ. فيه شيخٌ بلحيةٍ بيضاءَ كالثلجِ، وعينينِ تخترقانِ الروحَ. رسا الزورقُ بهدوءٍ بمحاذاةِ المقعدِ.
همسَ العجوزُ بصوتٍ خفيضٍ، كأنما يقرأُ خفايا الكونِ: "أتَبحثُ عن ضياعٍ؟"
أجابهُ الرجلُ، الدهشةُ تلونُ صوتهُ: "لا أظنُّ."
ابتسامةٌ باهتةٌ ارتسمتْ على شفتي العجوزِ: "فلمَ تجثمُ هنا كلَّ يومٍ؟"
صمتٌ قصيرٌ، ثمَّ همسَ الرجلُ: "أنتظرُ شيئًا لا أدريه، لكنني أحسُّ بوجوده."
هزَّ العجوزُ رأسَهُ ببطءٍ، وعيناهُ تحملانِ ثقلَ السنينَ: "انتظرتُ أنا أيضًا، حتى ذابَ المُنْتَظَرُ في تلافيفِ النسيانِ."
تبادلا نظراتٍ صامتةً، جسرٌ خفيٌّ ينسجُ بينهما، رابطٌ أزليٌّ يتجاوزُ الزمنَ.
فجأةً، مزّقَ الفضاءَ صراخُ أنثى بعيدٌ. التفتَ الرجلانِ، صوتٌ مفزوعٌ يُمزّقُ سكونَ الوجودِ.
قفزَ الرجلُ مذعورًا. ظلَّ العجوزُ في زورقهِ، يرمقهُ بعينينِ ثابتتينِ، كأنهُ يشهدُ قدرًا محتومًا.
ركضَ الرجلُ نحو مصدرِ الصوتِ. عندَ حافةِ الغابةِ، رأى امرأةً تفرُّ ورجلًا يطاردُها بخنجرٍ يتوهجُ في الظلامِ الدامسِ.
دونما وميضِ فكرٍ، انقضَّ الرجلُ على المعتدي. عراكٌ قصيرٌ، حاسمٌ، انتهى بسقوطِ المعتدي. ساعدَ المرأةَ المرتعشةَ التي لم تتمالكْ نفسها من الخوفِ. أخبرتهُ عن محاولةِ سرقتها، وعيناها تشعانِ بامتنانٍ لا يوصفُ.
اطمأنَّ الرجلُ عليها، ثمَّ عادَ أدراجَهُ نحو مقعدهِ القديمِ. لم يبرحِ العجوزُ مكانَهُ، كأنهُ جذورٌ ضاربةٌ في عمقِ اللحظةِ.
حينَ دنا، قالَ العجوزُ بهدوءٍ متناهٍ: "الآنَ علمتَ ما كنتَ تنتظرُ."
نظرَ الرجلُ إليهِ حائرًا، كلماتُهُ تتلعثمُ: "ماذا تعني؟"
أشارَ العجوزُ نحو الماءِ، صوتُهُ يحملُ صدى الحكمةِ القديمةِ: "تأمّلْ."
نظرَ الرجلُ إلى الماءِ فتجمّدَ. انعكاسُ وجههِ لم يكنْ وجهَهُ. كانَ وجهَ العجوزِ ذاتهِ، بلحيتهِ البيضاءِ الثلجيةِ، وعينيهِ الثاقبتينِ اللتينِ عرفهما للتوِّ.
التفتَ إلى الزورقِ فكانَ خاويًا. إلى المقعدِ الخشبيِّ فما كانَ عليهِ كتابُهُ، بل مجلدٌ قديمٌ بالٍ، صفحاتُهُ تحملُ بصماتِ الزمنِ.
أدركَ والصدمةُ تعصفُ بكيانهِ: لمْ ينتظرْ شيئًا خارجيًا. لقد انتظرَ نفسَهُ. تلكَ اللحظةَ التي سيغدو فيها ذلكَ الشيخَ الهادئَ، الذي نسيَ المُنتَظَرَ لأنهُ أصبحَ هوَ ذاتَهُ. كانَ العجوزَ ذاتَهُ، من زمنٍ آخرَ. والفعلُ البطوليُّ الذي أنقذَ بهِ المرأةَ لم يكنْ إلا الشرارةَ التي أشعلتْ جذوةَ التحولِ، وأيقظتْ فيهِ الروحَ الكامنةَ، التي كانتْ ترقدُ، تنتظرُ فرصتَها لتظهرَ، لتُدركَ وتتجلّى.