التواءٌ قاسٍ على صخرةٍ صلدة، وجذورٌ تتشبثُ بالثرى المتعطش. كانت "الناجية" – شجرةٌ عتيقةٌ شهدت تعاقبَ الدهور – تشقُّ عنانَ السماءِ من بين فكّي القوسِ الصخريّ العظيم، الذي لاحَ كبوابةٍ نحو العدم، أو ربما فوهةٍ تفضي إلى الخلود. عبرَ ثقبِه، تراءت قممٌ حجريةٌ صامتةٌ، تتوضأُ بضوءِ شمسٍ مُحتضرةٍ، وكأنها أضرحةُ آلهةٍ منسية.
كلَّ فجرٍ، كانت تُصغي إلى همسِ الريحِ العابرِ بينَ شقوقِ الصخور، تروي لها أساطيرَ عوالمَ بعيدة، عن أمطارٍ لم تهطل، وعن أرواحٍ مرّت، زرعت أحلامها ومضت. تشبثت بأرضها، لا تغريها وعودُ الغيمِ العاقرِ، ولا تكسرُها وعيدُ العواصفِ الهوجاء. كانت تؤمنُ أن في عمقِ جذورِها سرَّ البقاء، وفي رفيفِ أوراقِها نداءَ الحياة.
توالت القرونُ كأنها ومضة، والقوسُ الصخريّ يزدادُ اتساعًا، وهي تزدادُ صلابةً وتجذرًا. ذاتَ مغيبٍ، وبينما الشمسُ تصبغُ الأفقَ بصبغةِ الوداع، سمعت "الناجية" أنينًا غريبًا يتناهى إليها من خلفِ القوس. صوتٌ يشبهُ تهاوي صخرةٍ عظيمة، ثم أعقبَهُ سكونٌ مُطبقٌ ومُفاجئ.
انقبضت أغصانُها، وارتعشت أوراقُها. للمرةِ الأولى منذُ أن نُثرت بذرتها، شعرت بغربةٍ مطلقة. اختفى القوسُ العظيم، تحوّلَ إلى ركامٍ منثورٍ في الفراغ. لم يبقَ إلا هي، شامخةً وحدها، تحتَ سماءٍ بلا حدود، تُطلُّ على خواءٍ مقيم. أدركت حينها، أن القوسَ لم يكن بوابةً نحو الخلود، بل كانَ مرآةً وحيدةً لعزلتها، وأن الأبديةَ التي طالما راودتها، كانت في حقيقتها… سجنًا أخيرًا بلا جدران.