في غسق الأزمنة، حيث تماهت الظلال مع الهباء، انتصب هيكل عظمي، لا لحم يكسوه ولا عروق تضخ الحياة فيه؛ لكنه يحمل رداءً. رداءً فُصِّل من وشوشات الموتى، ونُسِج من أحلام لم تكتمل. على ثناياه، تراقصت صلبان محفورة، بعضها غائر كقبور منسية، وبعضها يلمع كنجم بعيد يواري أسرارًا. كان كل خيط في هذا الرداء يحكي قصة فناء، وكل غرزة تئنّ بزفرة روح.
كان الهيكل يشدّ الرداء إليه بقبضة يدين عاريتين، وكأنه يخشى أن يفلت منه آخر ما تبقى من عبير الحياة، أو ربما، آخر ما يربطه بالعالم الفاني. عيناه، فراغان أسودان، تحدّقان في العدم ببرود، لكن فيهما وميض خفي، كشرارة جمر تحت رماد السنين. لم يكن الهيكل مجرد رمز للموت، بل كان وصيًا على ذاكرة الكون، حاملًا لواءَ من رحلوا، ومستودعًا لصدى الضحكات والآهات التي سكنت الأرض.
وفي لحظة سكون مقيم، حيث لا صوت يمزق الصمت إلا همس الريح العابرة، ارتفعت يده العظمية ببطء، ولامست الرداء، وكأنها تبحث عن شيء مفقود. في تلك اللحظة، تدحرجت دمعة شفافة من أحد تجويفي عينيه الفارغين، وسقطت على أحد الصلبان المنقوشة. تحول الصليب، في برهة خاطفة، إلى زهرة ياسمين ناصعة البياض، فاحت عطرًا خنق هواء العدم بعبقه.