من بئر مهجورة في قلب ليلٍ سحيق، انبثق نداءٌ خفيضٌ حطّم صمت أحمد الذي ألف الوحدة. لم يكن فلكيًا يحدّق في النجوم، بل رسامًا أنهكته اللوحات غير المكتملة، تطارده أطياف لون لم يُرَ، وخط لم يُلمَس. لكن هذه الليلة، كان الصدى الغامض وحده رفيق ريشته، يهتف بما لا يُفهم.
لم يكترث أهل القرية؛ اعتبروه ضجيج ريحٍ أو وهمَ الخوف. لكن أحمد، الذي ألف الصمت، اهتزّ لما سمعه: لحنًا حزينًا، كأنّه استغاثةُ روحٍ محبوسة. تسلّلت الرغبة إلى أعماقه، رغبة لا تُقاوَم في كشف الستار عن المجهول، في مطاردة ما لا يناله البصر.
في ليلة مقمرة، تسلل نحو البئر. كانت حافتها مكسورة، وفمها يبتلع الظلام. ألقى نظرة في الأعماق: سواد كثيف يُطبق على الأنفاس، لا تكاد تميز فيه إلا أصداء صمتٍ غائر. لكن النداء ازداد قوةً، وكأنه يخرج من صميم روحه. فجأة، وميضٌ خافتٌ يتراقص في القاع، كفرشاة ألوانٍ مضيئة بعيدة.
ارتعش أحمد. أهذا اللون الذي يبحث عنه؟ اندفع بجسده، يتشبث بالجدران الرطبة دون تردد. النداء يزداد وضوحًا مع كل نزول. وصل القاع. الوميض هناك يتوهج بنورٍ ساحر، لوحةٌ فنية لا مثيل لها، لم ترسمها يد بشر.
مد يده ولمس الوميض، فتوقف النداء. توقف العالم. انفجرت داخله أضواء لم يرها من قبل: كل الألوان والخطوط التي حلم بها تدفقت في روحه. أغمض عينيه، ورأى لوحة حياته تتشكل أمامه، لكنه لم يكن الرسام فيها.
فتح عينيه على إشراقة الشمس، مستلقيًا على حافة البئر، وجسده موحل. نهض بصعوبة، وشعر بشيء مختلف. نظر إلى كفيه؛ لم تكن هناك، تلاشتا. وإلى قدميه؛ لم يجدهما، اختفتا. ذُهل: أين ذهب جسده؟ لم يعد ملكًا له، لقد أصبح جزءًا من شيء أكبر، شيء أبدي. التفت نحو البئر. هناك في قاعها، رأى نفسه: كان هو الوميض، هو اللون، هو اللوحة التي طالما بحث عنها.