تسرّبت خيوطُ الفجرِ الأولى، خجلى، لتُعانقَ أطرافَ القبرِ المهجورِ. كانت " ليلى" تجلسُ، وشعرُها الذهبيُّ يتراقصُ كشلالٍ من نورٍ في ظلمةِ المقبرةِ القديمةِ. أناملُها الرقيقةُ تعزفُ لحنًا شجيًّا على قيثارةٍ خشبيةٍ عتيقةٍ. كلُّ وترٍ يئنُّ بوجعٍ. كلُّ نغمةٍ تروي حكايةَ غيابٍ. لم يكن أحدٌ ليُصدّقَ أنها، منذ سبعةِ عقودٍ مضت، دُفنتْ هنا، تحتَ شاهدِ القبرِ الذي احتضنَ جسدًا غيرَ جسدِها.
في كلِّ ليلةٍ مقمرةٍ، كانت روحُها تُحلّقُ من عالمِ الأمواتِ، لتُسكنَ جسدًا آخرَ. جسدٌ جديدٌ، لكنَّ الروحَ هي هي، مُثقلةٌ باللحنِ الأخيرِ الذي عزفتْه قبلَ أن يُسدلَ الستارُ على حياتِها الأولى. كانت تترنّمُ بذاكرةٍ، بأسماءٍ، بوجوهٍ، لكنها لم تكن تتذكّرُ اسمَها الحقيقيَّ.
فجأةً، انبعثَ ضوءٌ خافتٌ من القبرِ المجاورِ. اهتزّتْ أوتارُ القيثارةِ في يدِها، وتوقّفَ اللحنُ. انتفضتْ ليلى، عيناًها تُبصرانِ شتاتَ الغيبِ. من بينِ شقوقِ التربةِ، انبثقتْ يدٌ مُتعبةٌ، نحيلةٌ، تحملُ قيثارةً أخرى، مُتهالكةً، عليها آثارُ ترابِ الزمانِ. ارتجفتْ، وسقطتْ قيثارتُها من بينِ يديها.
وبصوتٍ أجشَّ، خافتٍ كهمسِ الريحِ بينَ القبورِ، همستْ اليدُ: "أخيرًا… وجدتُكِ يا ليلى… لقد حانَ وقتُ التبديلِ… كانَ لحنُكِ هوَ ما أيقظني… لقد مللتُ الانتظارَ سبعينَ عامًا."
تجمّدتْ الدماءُ في عروقِها. أدركتْ في تلكَ اللحظةِ المريرةِ، أنَّ جسدَها الذي عاشتْ به كلَّ هذه العقودِ، لم يكن سوى الجسدِ الذي دفنتْهُ هيَ بنفسِها، قبلَ سبعينَ عامًا، بجانبِ قبرِها… جسدُ ابنتِها الوحيدةِ التي ماتتْ قبلَها بيومٍ واحدٍ. والآن، هيَ الروحُ التي كانت تسكنُ القبرَ المجاورَ.