في غياهبِ الليلِ البهيم، حيثُ تذوبُ الفواصلُ بينَ الوعيِ والرؤى، ارتسمتْ مريمُ كخيالٍ شفيفٍ على نافذةٍ مُسنَّة. كانتْ تستشرفُ حديقةً يكتنفها السكونُ إلا من وشوشةِ الريحِ العابرةِ، وسنا القمرِ الفضيّ الذي ينسجُ ظلالًا راقصةً على العشبِ النّديّ. ومع كلِّ امتدادٍ لظلها الطويلِ، ككائنٍ حيٍّ ينبضُ على الأرض، انبعثتْ من مقلتيها دمعةٌ فريدةٌ، لؤلؤةٌ تتهادى، ثم تهوي على زجاجِ النافذةِ المبلل.
تلكَ الدموعُ، قرينةُ وحدتِها، تتدفقُ كلما استُعيدتْ ذكرى الفراقِ السرمديّ. ذاكَ اليومُ الذي هوى فيه خالدٌ، توأمُ روحِها، ليغدوَ قاطنًا لعوالمِ الأطيافِ. لكنَّ المفارقةَ الصارخةَ كمُنَتْ: دمعةُ مريمَ لم تكنْ من جوفِها، بل كانتْ صدى حزنِ الانعكاسِ ذاته. فكلُّ دمعةٍ تنفصلُ عنها، كانتْ تتكوّنُ في أحشاءِ طيفها، وتنفصلُ عنه كجزءٍ من كيانهِ المكلوم.
وفي ليلةٍ مُعربدةٍ بالمطر، حيثُ تمازجتْ دموعُ السماءِ بفيضِ عينيها، التمحتْ مريمُ مجدّدًا خيالها على النافذة. لم يكنْ ذلكَ الخيالُ جامدًا هذه المرة، بل كانَ يتلوّى كجناحِ فراشةٍ تلفظُ أنفاسَها. ومع كلِّ قطرةٍ تترقرقُ وتهوي، كانَ يضمحلُّ، حتى تلاشى تمامًا مع آخرِ زفرةٍ انحدرتْ من عينِ مريمَ.
في تلكَ اللحظةِ، تسرّبتْ برودةٌ كالصقيعِ إلى أعماقِ كيانِها. لا خيالَ يعقُبُها بعدُ، ولا انعكاسَ يترجمُ لوعةَ حزنِها. أدركتْ حينها الحقيقةَ الصاعقة: لم يكنْ ذلك الطيفُ سوى خالدٌ نفسه، روحهُ التي تجسّدتْ وهجًا شاحبًا يواسيها، ودموعُه كانتْ تُرسَلُ عبرَ مقلتيها، حتى استُنزفتْ منه آخرُ رمقٍ من وجودٍ. لم تكنْ مريمُ تبكي ثكلَ حبيبها، بل رحيلَ طيفِ حبيبها. فكانتْ تبكي الفقدَ مرتين: مرةً للجسدِ، ومرةً للسرابِ.