مطرقة النجار المسن ترقص بين أنامله الواهنة، وقد غشيت عينيه عتمة السنين الطويلة، فلم يعد يرى من الدنيا إلا طيفًا باهتًا. كل ضربة كانت ترسم اهتزازًا في كفه التي، ويا لسخرية القدر، نحتت آلاف التوابيت لتدفن فيها أحلام القرى. ففي تلك القرية النائية، المنسية كصفحة طواها النسيان من سجل الزمن، لم يُوارَ ميّت في ثراها إلا وكان مسكنه الأخير من صنيع يديه الشائختين. هو حارس عتبة الموت، وصانع الملاذ الأخير.
الليل قد أرسل ستائره السوداء الكثيفة، فلفّ المكان في سكون مطبق يُثقل الأنفاس ويضغط على جدران الروح. فجأة، تمزّق هذا الهدوء لا بصوتٍ عالٍ، بل بطرقات خافتة، متأنية، كأنها قادمة من مسافة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ارتجف قلب النجار، وكادت يده المتهالكة أن تسقط المطرقة. مدّ كفه بصعوبة إلى المزلاج، وفتح الباب ببطء شديد، ليكشف عن ظلٍّ غامضٍ يقف على العتبة.
"أحتاجُ نعشًا، يا سيدي." نطق الغريب، وصوته ينساب هادئًا كفحيح الأفاعي، يتسلل إلى مسامع الشيخ فيزرع فيه قشعريرة باردة. أشار بيده النحيلة إلى لوح خشبي عتيق يحمله، لوح بدا وكأنه يحمل ندوب الزمن. "أريده من هذا الخشب... هذا بالذات." بدا إصرار غريب في نبرته، وتوهج بارد في عينيه.
تسمرت عينا النجار على قطعة الخشب، وقد شعرت ذراعه الواهنة بثقلٍ مفاجئ. لم تكن مجرد قطعة خشب عادية؛ بل هي قطعة مألوفة، تنبض بالذكريات والخوف. كانت جزءًا لا يتجزأ من باب بيته العتيق، ذلك الباب الذي طالما أغلقه بإحكام ليحميه من الليل والمجهول، ومن كل ما هو مظلم ومخيف في العالم الخارجي.