تجاعيد وجهه خريطةٌ لقارةٍ غابرةٍ، وعيناه نهرانِ ذهبيانِ من دموع الأزمنة. لحيته، جدولٌ أبيضُ، ينسجُ حكاياتِ شتاءاتٍ باردةٍ لم تَذبْ عن قمم ذاكرته.
في كوخه البارد، حيث يرقصُ الضوءُ الخافتُ، جلسَ "شيخ المداخن". يداهُ ترتعشانِ فوقَ صندوقٍ خشبيٍّ يَئنُّ تحتَ وطأةِ الأسرارِ. سحبَ منه عودًا مهترئًا، أوتارُه تتهدَّلُ كشعرِه الأشيبِ.
كان الشيخُ يعزفُ لحنًا واحدًا فقط، لحنَ الفقدِ الذي لا ينضبُ. كلُّ نغمةٍ، قطرةُ دمٍ من قلبِه المنهَكِ، تروي صمتَ القبورِ الذي يكسوه، لا لمستمعٍ، بل ليُخرسَ فراغًا يصرخُ في أذنيه.
ذاتَ ليلةٍ، تحتَ سماءٍ قاسيةٍ تَلألأتْ نجومُها، بدأَ عزفُه المعتاد. لكنَّ الأوتارَ صدحتْ بلحنٍ آخرَ، لحنٍ حيويٍّ، كصوتِ طائرٍ يغرّدُ لأول مرةٍ بعدَ سباتٍ عميقٍ. اتَّسعتْ عيناهُ الذهبيَّتانِ دهشةً، وشقَّتْ ابتسامةٌ خَجِلَةٌ طريقَها بينَ تجاعيدِه. اللحنُ تسلَّلَ، أيقظَ أملًا منسيًّا، وفرحًا لم يعرفْه قلبُه منذُ زمنٍ.
انتهى اللحنُ، خيَّمَ صمتٌ ثقيلٌ. نظرَ الشيخُ إلى العودِ، ثمَّ إلى الصندوقِ. فجأةً، لمعَ بريقٌ في عينيه، كاشفًا سرًّا دُفنَ طويلًا. مدَّ يدهُ المرتعشةَ إلى قاعِ الصندوقِ، وسَحبَ منهُ دميةً صغيرةً مطويةً بإتقانٍ. لم تكنْ مجرَّدَ دميةٍ، بل عودًا صغيرًا، نسخةً طبقَ الأصلِ من آلتهِ، جديدًا لم يُعزَفْ قطُّ.
في الصباحِ الباكرِ، وُجِدَ الشيخُ مسندًا رأسَه إلى الحائطِ. العودُ القديمُ على ركبتيه، أوتارُه محطَّمةٌ. أما العودُ الصغيرُ، فكانَ ملتصقًا بصدرِه، أوتارُه مشدودةٌ كأنَّها عُزفَتْ للتوِّ. وعلى محيَّاهُ المتجعدِ، ابتسامةٌ عريضةٌ كلقاءِ حلمٍ عزيزٍ.
وفوقَ جبينِه، ورقةٌ بخطٍّ مرتجفٍ: "لقد عزفتُ لحنَكَ الأخيرَ يا بُنيَّ... وأخيرًا ارتحتُ". في قاعِ الصندوقِ، تحتَ غبارِ السنينَ، رسمٌ لطفلٍ يحملُ عودًا، وعبارةٌ باهتةٌ: "كنتُ أعزفُ لكَ، يا أبي، حتى لا تشعرَ بالوحدةِ."