نقشت السنون خرائطها على ملامح وجهه، كأنها وثيقة عمرٍ أنهكه العناء. "أبو حسن"، اسمٌ يتردد في القرية. على كتفيه، تتشابك غصون يابسة كشرايين بارزة في جسدٍ أنهكه العوز. وفي يديه منجلان صدئان، شاهدان صامتان على سعيه الدائم في أرضٍ لم تُثمر سوى الشوك.
كل فجر، قبل أن تفيق الشمس، يغادر الرجل كوخه الطيني. يمضي في طريق وعرة، لا يشاركه فيها سوى التراب وخشونة الأغصان. يتوقف تحت زيتونةٍ معمرة، أغصانها شامخة كأذرع متشبثة بالحياة، يقطع ما تيسّر ويجمعه بحذر، كأنها قطعٌ من روحه المتهالكة. حلمُه كان دفئاً يملأ مسكنه، وخبزاً يسدّ جوع بطونٍ خاوية لأحفادٍ تشتتوا في صحراء الفقر.
تثقل الخطى بالحِمل المتزايد، وينوء الجسد، لكن عزيمته لا تنكسر. في كل غصن يابس، يرى بصيص أمل يضيء عتمة ما بقي من أيامه.
عند السوق، حين اشتدت شمس الظهيرة، وتقلّصت الظلال، جلس في زاويته المعتادة، ينتظر زبونًا لحِمل يومه. مرَّ الناس أمامه كالأشباح، لا يلحظون وجوده. الشمس تلفح وجهه، والعطش ينهكه.
أخيرًا، اقترب رجلٌ يرتسم عليه الغنى. نظر إلى الشيخ باستهزاءٍ، وأشار إلى الحطب: "كم هذا يا شيخ؟" سأل بصوتٍ خشنٍ خالٍ من الدفء.
تنهد أبو حسن. بصوتٍ أجش، أجاب: "بدرهم يا ولدي، لقمةٌ تكفيني ليومي."
ضحك الرجل بسخرية: "درهم؟ ثمنٌ بخس لحطبٍ لا أرى فيه إلا الشوك والعفن! نصف درهم، وإلا فدعه لك."
صمت الشيخ. نظر إلى الحطب الملقى أمامه، ثم إلى وجه الرجل المتكبر. تسلل إليه وهنٌ عابر، لكن كبرياء السنين أبت إلا أن تنتصب قامته.
نهض ببطء، حاملاً حطبه، ومثبّتاً المنجلين على كتفه. التفت إلى الرجل الغني، وبصوتٍ اهتزت له جنبات السوق، قال: "يا ولدي، هذه الأغصان اليابسة ليست مجرد بقايا حياة، بل قصة كفاح. ليتها كانت بيضاء كوجهك النضر، لكنها حملت ألوان تعب الأيام. احتفظ بنصف درهمك، فقد بيعت هذه الأغصان بسعرٍ لا يُقدّر بثمن."
ترك أبو حسن الرجل مذهولاً، ومضى عائداً إلى كوخه. حمله لم يكن حطبًا لم يُبع، بل كرامةً أثقل من أي ثمن. وفي تلك اللحظة، هطل المطر غزيرًا، كأن السماء بكت على زمنٍ أصبح فيه الكبرياء أغلى من خبز الفقير، وحطب اليأس هو الدفء الوحيد في ليالي الشقاء.