في إحدى صباحاتِ جباليا الأبية، راقَ للشمسِ أن تُسدلَ خيوطها الذهبية، وراقَ للطيرِ أن يُغردَ بألحانهِ البهية .أجواءٌ صباحيةٌ باعثةٌ للأملِ والنشاط، فها هم الباعةُ يبدعونَ في تنسيقِ بضاعتهم من خضارٍ و فاكهةٍ على عرباتهم الخشبية؛ طالبينَ الرزقَ من اللهِ بعد ما حالَت جائحةُ كورونا بينهم و بين لقمةِ العيش. وهناكَ أمامَ بيتِ أمِّ أحمد تجلسُ النسوةُ على مصطبتها؛ يتبادلنَ أطرافَ الحديثِ، ويستفدنَ من نصائحِ بعضهن حولَ وصفاتِ كعكِ العيد. وهنا ثلةٌ من الأطفالِ تتصاعدُ أصواتَهم وتملؤُ الأجواءَ ضحكاتهم، يخططون ما سيبتاعون بالعيدية. ومن الجهةِ المقابلة يجتمعُ رهطٌ من كبارِ السنِّ في ديوانِ الحارة يتحدثونَ عن كورونا ذلكَ الوباءُ المعاصر، الذي ما عايشوه مسبقاً قط، و الذي أرجعوا سببه إلى الإفراط في العلاجات الكيميائية، ففي زمانهم رغيفٌ من الطابونِ و حفنةُ زيتِ زيتون كافيتان بأن تمدانكَ بطاقةٍ مهولة على حدِّ تعبيرهم. لم يكن هذا جلُّ حديثهم، بل جعلوا لما يدور في القدس من أحداثٍ مؤلمة نصيباً منه أيضاً ،فهل ستقومُ حربٌ جديدة على قطاع غزة ،أم أنها أضغاثُ أحلام ؟!
و هناك في آخرِ بيتٍ في الحارة استيقظَ رائدُ على السحورِ، تناولَ سحوره برفقةِ عائلته، ثم صلى الفجرَ، وجلسَ على الأريكةِ يتلو بضعَ آياتٍ من القرآن لأنه في الفجر مشهوداً. بعدها تحدّث مع زوجته : " يا أم العبد اليوم سأُحضرُ طعامِ الإفطارِ معي، كذلك جهزوا أنفسكم الساعة العاشرة صباحاً لنذهب إلى السوق لشراءِ ملابسِ العيد ".
و قبلَ أن تُعقِّبُ الزوجة على كلامِه انهالت ضحكاتُ أطفالهم عليهم كالمطر، الذي مهما كان ضره إلا أن خيره وفير. أما الزوجةُ فامتعضت قليلاً لقرارِ زوجها الذي وجدته مبكراً على ما تمرُ به البلادُ من ظروفٍ سياسيةٍ قد تقودهم إلى حربٍ لا تُحمد عقباها؛ فقالت :" ألا تظنُّ يا رائد أن فكرةَ السوقِ مبكرةٌ جدا ؟ نحن على أبوابِ حرب، فعن أي عيدٍ تتحدث ؟! . حيُّ الشيخِ جراح في القدس يتم تهجير ساكنيه، و الناس يستنجدون بغزة بعد أن نفذت حقائبُ الرحمةِ لدى العربِ و العالمِ أجمع. كفّ عنك هذا الكلام يا رائد بالله عليك، لن يرتدي أطفالي ملابسَ العيدِ و أطفالُ القدسِ تشرد!" .
ردَّ قائلاً : " اليوم هو الثامن والعشرون من رمضان، ليس لدينا وقتٌ لاقتناء ملابس العيد، فرحةُ أطفالنا حرقةٌ لليهود، وغصةٌ في حلقِ كل متآمر . أتعتقدين أنها إذا قامت الحربُ لن ننتصر ؟! نحنُ منتصرون، رُفعت الأقلامُ و جفت الصحف، كم مرةٍ دمرونا و قمنا من تحتِ الرمادِ كالفينيقِ يلملم فُتاتَ جسده إلى أن يعود مرةً أخرى شامخاً قوياً لا يهابُ الموت " .
بدّدَ كلامُ رائد شيئاً من سحاباتِ قلقٍ قد لاحت في سماءِ زوجته .
بعد ساعاتٍ خرجوا من بيتهم و الفرحةُ تتراقصُ في أعينهم . الأطفال يسيرون بعيونٍ متيقظة، يبحثون بين الألعاب المصفوفة باتساقٍ و دقة على أرففِ محلاتِ الباعة عن ضالتهم، علّهم يتعثرون بلعبةٍ غريبةٍ يتباهون بها أمام رفاقهم.
استغلت الأم انشغال أبنائها و همست لرائد : "آهٍ كم أحمدُ الله كل يومٍ على توبتك مما كنتَ ضائعاً فيه، الحمد لله أنكَ أخيراً عدتَ إلينا بعدَ أن شغلتك تلكَ الصحبة التي زينت لكَ الحبوبَ المخدرةَ فأدمنتها. منذ أول يومٍ في زواجنا وأنا أشتكي سوء عشرتك، دعوتُ الله كثيراً، وطلبتُ منه عوداً حميداً لكَ على طريقه ...، قاطعها رائد : " الحمد لله عرفتُ الطريقَ إليه، و لن أضله ما حييت، مرَّ عامٌ كاملٌ على توبتي شعرتُ فيه بلذةٍ عجيبةٍ، حلاوةٌ ما بعدها حلاوة، راحةٌ و طمأنينةٌ ما أحسَّ بها قلبي من قبل ."
عادوا إلى البيت محملين بالسعادة و المشتريات، وما أن جلسوا حتى وردت مكالمةٌ لرائد بأن يذهبَ لعمله الآن بسبب نقصٍ في موظفي توصيلِ الخدماتِ للبيوت لأن الوضعَ حرج للغاية، و يبدو أن القطاع سيواجه حرباً ضارية.
خرجَ رائدُ مسرعاً من بيته لتلبيةِ واجب العمل، ووعدَ بأن يعودَ قبلَ أذانِ المغرب، و أكدَّ أنه سيجلبُ طعامَ الإفطارِ معه .
مرَّ الوقتُ كالسيفِ و لم يمرَّ معه رائد ، بقيت الزوجةُ تنتظرُ زوجها كمن ينتظرُ حكمَ البراءةِ من لسانِ القاضي، اغتالتها الدقائقُ و الثواني، و افترسها الانتظارُ بين فكيه ،و قتلتها الظنون، و نهشت في لحمها أصواتُ القصف الفتاك التي باتت صاخبةً في كل مكان.
تجلسُ و القلقُ يتربص بها، عينٌ على قناةٍ إخبارية ، و أذنٌ على جرسِ الهاتفِ النقال عله يتصل فيتلاشى شبحُ الظنون القاتلة.
بقي لأذانِ المغربِ ساعةً و لم يعد رائدُ بعد ،ولم يعد الدم يجري في شرايين زوجته بل اتجه نحو الدماغ يقيته ُ لما اكتظَّ فيه من أفكار و ظنون .
اشرأبتِ الأعناقُ، و وصلت القلوبُ الحناجر، و ما عادت كلمة (سيعودُ قريباً) كفيلةً بإخمادِ قلقِ أطفاله، لم تجد الأمُ حلاً سوى أن تجلس بينَ أطفالها تُهدئُ من روعهم، فهم بين فكين مفترسين : القلقُ على أبيهم، و الخوفُ من أصواتِ القصف .
أما رائد فغمرته السعادةُ بعدَ أن أنهى عمله أخيراً. اتجه مسرعاً نحو أحدِ المطاعم، و ابتاعَ وجبةً من الأرزِ الفاخرِ معَ دجاجةٍ مشويةٍ محمرةٍ كما تحبها زوجته تماماً. حمل الوجبةَ في إحدى يديه، وأخذَ يلوحُ بالأخرى ذهاباّ و إياباً يحثُّ الخطى، لكنَّ صاروخَ طائرةٍ صهيونيةٍ كان أسرعَ منه.
للحظةٍ بهتت السعادة، ونكّست رايتها، و ازدحمت الغيومُ بالأحزان، و تناثرت أشلاءُ رائد مع حباتِ الأرزِ الملطخةِ بدمائه الطاهرة، طارت الدجاجةُ_ التي ما حلمت يوماً أن تطير_ لكننا في بلد المعجزاتِ، وكل شيء وارد، طارت لترفرفَ فوقَ روحه التي عرفت طريقها إلى الله .
استشهدَ رائد و كأن توبته كانت قرباناً تقبله اللهُ منه، ذهبَ هناك إلى حيثُ اللا ظلمَ، اللا تفرقة، و اللا احتلال .
بعد ساعاتٍ من استشهاده وصلَ الخبرُ لزوجته و ذويه. خرجت الزوجةُ متثاقلة، بالكادِ تجرُّ قدميها، تسير خبط عشواء، حبلى بالألم، لا تدري أحقاً ما سمعته أم أنهم يهذون ؟! خرجت لتودعَ جثمانه في المشفى رغمَ القصف، خرجت لتفطرَ على دمائه الزكية، خرجت تحنو على جسده كما كان يحنو عليهم قبل ساعات، خرجت لتخبره أنها لطالما انتظرت عودته، وعندما عاد أخيراً خرج ثانيةً، ولكن هذه المرة لم يترك البابَ موارباً لعودةٍ جديدة، خرجت توصيه أن يختارها حوريته في الجنة، تستحلفه أن ينتظرها هناك كما ستنتظره هنا .
كفنوه بالعلم، طيبوه بالمسك، زفوهُ بالزغاريدِ إلى جنته، ذهبَ رائدُ إلى العُلا، أسميناه شهيداً، و أسماهُ الاحتلالُ إرهابياً، وأدرجَ اسمه في اللائحة السوداء ضمن المطلوبين ، فلعنةُ اللهِ على الظالمين .
بعد يومين مرَّ العيدُ على استحياءٍ يطلبُ الفرحةَ حثيثاً، و رغم استمرار الحرب ارتدى اطفالُ رائد ملابس العيد، ليشاهدهم والدهم بها، أليسوا أحياء يرزقون؟ وخرجوا برفقةِ أمهم لزيارته في قبره، عايدوهُ، قبلوا ترابه الذي لايعادله تراب، ترابُ الوطن مغموساً بمسكِ الشهيد، رفعوا بنادقهم نحو السماء، ورايةَ النصرِ ترفرفُ في الأفق.