مي...
تحيةُ سلامٍ من أرضٍ شُنقَ فيها السلام في وضح النهار على مرأى الجميع أما بعد...
استيقظتُ هذا الصباح على أصوات أطفال الحارة يصرخون لطائرة المساعدات التي تهدرُ على ارتفاعات منخفضة، يستنجدونها بأن تلقي بطرود الطعام فوق أسطح بيوتهم بدلاً من عناء آبائهم في المخاطرة بحياتهم للبحث عنها في البحر أو محاولة الخلاص بطرد منها من أيدي جوعى آخرين!
هممتُ كعادتنا الصباحية _حديثي العهد بها_ بإشعال النار لخبز أقراص العجين فإذا بأخبارٍ مفجعة تكتسح كثافة دخان النار فتضرمها أكثر، أخباراً بموت دفعة جديدة من جائعي الوطن إثر ركضهم وراء لقمة العيش... وكان من بينهم أحدُ الأقارب، قام ذويه بجمع أشلائه ومن ثم واروها التراب، وعادوا يمارسون طقوساً جديدة لحياةٍ رَخُص فيها الموت فبات حادثاً هادئاً متوقعاً في أي لحظة! ابتلعت غصة الخبر ذاك وفتحت هاتفي النقال أحاول عبثاً إشغال نفسي بأي شيء فإذا بي ألمح التاريخ الذي تم إلغاؤه من يوميات الحرب فكل الأيام متشابهة متعاقبة لا مميز فيها إلا يوماً لم يأتِ بعد _يومُ التحرر_ هزئتُ بابتسامة باهتة عندما تأكدت للمرة الثانية من التاريخ! إنه الأول من نيسان _كذبة نيسان_ وأي كذبة أعظم مما نلاقيه اليوم من وحدة العرب واستنكارهم لما يحدث هنا، أي كذبة أوقعُ أثراً من كذب عيونٍ مراوغة، في المساء تحزمُ صناديق الأسلحة للعدو وفي الصباح ترمي لنا صناديق الطعام البائس؟!
ألقيتُ الهاتف جانباً حتى لا تفرغ بطاريته فأضطر لدفع ثمن شيكل واحد لشحنه عند جارتنا الثرية التي ابتاعت ألواح طاقة شمسية تستثمرُ فيها من وراء احتياجاتنا المعطوبة!
في جباليا تكتظ حارتنا بأصواتِ سكانها الجهورية التي تُشعركَ بأن شريان الحياة ما زال ينبض، يعيشون ما تبقى من حياةٍ كأنها الحياة، يتزاورون ويثرثرون ويتبادلون النكات والضحك، الناس هنا طيبون للغاية، يُلقون التحايا بحرارة ولا ينتظرون سوى أن تشاركهم الحديث وتنبهر بعظيم إنجازاتهم حتى لو اضطررت للتظاهر بذلك فقط لتكسب وُدّهم وإشراقة مبهجة من محياهم... الطريف في الموضوع أنه عند مدخل البلدة يوجد سوق يسمى (سوق الحرامية)! كَثُرت علامات التعجب في رسالتي أعلمُ ذلك لكن أجل كما سمعتِ، وتعريفي له: "سوق حربي مستحدث يتم فيه بيع بضائع وأطعمة مسروقة من محال أو بيوت قد هجرها سكانها ونزحوا من أماكنهم أو حتى مؤسسات لم تعد موجودة ويباع فيه أيضاً بضائع أخرى غير مسروقة فقد اختلط الحابل بالنابل هنا" لا أستطيع أن أجزم بحُرمة ما يقومون به في ظل شُح كافة المقدرات ولا أستطيع في الوقت ذاته أن أتغاضى عن قيمي وعقيدتي، لا أستطيع الحكم، الحكم وحده لرب العالمين الغفور الرحيم... وبرغم كل شيء تبقى جباليا البلد الحنون التي تحتضنني كلما هاجت بي البلاد ولفظتني من جوفها...
صحيح نسيتُ أن أزفّ إليك بشرى حصولنا على قطع دجاج مجمد (ستيك) وكانت فرحتنا عارمة فمنذ ما يزيد عن الخمسة أشهر لم نذق للدجاج طعما ولا لأي نوع آخر من اللحوم، هللنا، كبّرنا، قفزنا في الهواء فرحاً، غنينا للدجاجة وقلدناها مراسم الحكم لهذا اليوم! ازدحم الناس عند تاجر الممنوعات تلك التي جاءته من الجنوب من ضمن شاحنات المساعدات، احترتُ أي طبق أُعِدُّ بهذه القطع الفريدة، هل الشاورما التي انفطر قلب طفلي عليها أم دجاج بانيه (شنيتسل) كما يعشقه الجميع الصغار والكبار على حد سواء، في حيرتي تلك هجمت على طبق الدجاج قطط الشارع التي باتت تتضور جوعاً هي الأخرى، عذبني قلبي فقطعت لها إحدى القطع لعلها الشافعة للخلاص من هذه الحرب النكراء! أخيراً جهزتُ الدجاج بانيه والتهمناه برفقٍ متناهٍ حتى تنساب لذة المذاق بطيئاً نحو خلايانا فتسد شهوتنا لشهورٍ نجهلُ عددها كجهلِ نتنياهو هو الآخر بها!
ازدادَ جدالنا مع الأيام وقلّ الصبر، جدالات قد تكون تافهة وقد تزداد حدتها حسب الموضوع المُسجى لها، ازدادت المشاحنات من شدة الضغط والتوتر، وأصبح العراك شيء وارد في يوميات كل غزاوي، عراك على الطعام، الماء، الخيام، إحدى فصول المدارس للسكن، أو حتى عراكاً يفتكُ بطابورٍ أطول من سور الصين العظيم _أيضاً الطوابير أصبحت جزء من حياتنا هي الأخرى_ واكتسحت الرشاقة البلاد وأصبح نظام طعامنا المُتبع أحد البرامج المنصوح بها لحميةٍ قاسية قد تتبعها إحدى الممثلات لتحاول الوصول لأنوثةِ شيرين رضا مثلاً! هنا نحن نعيش في عالم آخر غير الذي اعتدناه لكننا للأسف بتنا نقنع أنفسنا بالتعود عليه...
ختاماً سلامي المبتور للجميع...