رسائلُ سلام
صديقتي،
عيدكم مباركٌ عليكم وعيدنا مكلوم، أما بعد...
لا تسأليني عن حالنا؛ فقد بتنا نطوي الأيام تلو الأخرى طيّ السجلِّ للصحف، لا تغيير يُذكر ولا استقرارٌ يُضاف، أما عن حالكم فكلُّ الأمنيات بدوام أفضل الأحوال عليكم...
يُقال أن العيدَ قد زحف في طريقه إلينا، يُطلُّ علينا على استحياء بنصفِ عين، فما جاء عيدٌ إلا والفرحة تكلله، واليومَ قد رفعت الفرحة رايات الحِداد على شعبٍ مهروسٍ تحت أقدامٍ طاغية؛ فكيفَ سيُرينا وجهه ذاك العيد؟!
هذا الرمضان الأول الذي يُتمم صيامه طفلي ذو الستة أعوام ولّما سمع بحلولِ العيد طلبَ ملابساً جديدة كما جرت العادة، استغربتُ الفكرة رغم سلامة ورودها في الطقوس المعتادة لليلة العيد، خرجتُ وزوجي نجوبُ الأسواق التي ظنناها فارغة! علّنا نتعثر بملابس جميلة تروق طفلي المتعب الأحلام، كانت مفاجأتنا عندما رأينا ازدحام الأسواق بالناس الذين خرجوا يبتاعون الملابس الجديدة، الفسيخ و سميد لصناعة كعك العيد آملين بهدنةٍ وشيكة تجعلُ العيدَ عيدين. تأملتهم وأنا أردد: "شعبُ الجبارين يا شعبي وستبقى كذلك، تنزعُ الفرح من بين جنباتِ الموت"!
هذه المرة لم نقم بترتيب البيت وتنظيفه ليكن مهيئاً لاستقبال الضيوف؛ لأننا ما لبثنا الكثير على تنظيف ركامه وشظاياه المتعافرة إثر الاقتحام الأخير، أتذكر أننا عُدنا أدراجنا بعد الانسحاب ولم تعد لدينا طاقة للتنظيف وإزالة الركام، لم نعد نقوى على صراع الدمار ذاك، تنفسنا الصعداء وقتها وباشرنا العمل على قدمٍ وساق فلا مفر لدينا؛ فإما الحياةُ أو الحياة لاسيما أننا لم نجد ماءً البتة؛ دمروا كل شيء واغتالوا ما تبقى من نبضاتٍ كانت كفيلة بإنعاش شريان الحياة في المنطقة! لم نيأس رغم ذلك وواصلنا كفاحنا واستجمعنا جَلَدنا على البقاء... الاقتحامات المتكررة تلك تذكرني بفيلم "شمس الزناتي" وبذلك النجع المنهك من طغيان المارشال الذي كان يتردد شهرياً عليه ناهباً خيراته ومسبباً الخراب لشعبه المنكوب، وبين غفوةٍ وأخرى أتساءل... أما من زناتي يُخلصنا من خرابنا ذاك!
لم نجد نبات السلق في السوق لطبخ (سماقية العيد) _أكلة شعبية غزية تأكل في أيام عيد الفطر بجانب الفسيخ_ لكننا صممنا على الفرح فصنعتُ كعك العيد، جلبتُ حجرين من تلك المخصصة لبلاط الشوارع _وهي متواجدة بوفرة في أي ركن في الشارع إثر القصف المتواصل الذي ينزعها من أماكنها لتصبح شظايا قاتلة_ ووضتعهما بشكلٍ متوازٍ على موقدِ الحطب ثم وضعتُ الجمرات بينهما وفي الأعلى قمتُ بتثبيت شبكة الشواء، كان النِتاجُ لذيذاً طيباً، تجدُ فيه طعمَ كل أولئك المفقودين والمشردين الذين باعدت بيننا وبينهم حربُ الطغيانِ تلك، تجدُ فيه ريحَ المواساة لكلِّ يتيمٍ جارت عليه الحرب فسلبت منه أماً حضنها يُعادلُ أمان الكون كله، تجد فيه طعم الانكسار والخذلان من أولئكَ الرابضين خلف المكاتب يتملصون من عقاب الضمير وبكأسِ مفاوضاتٍ يبيتون سكارى على وسائدِ النعام!
جاء العيد ولمّا يأتِ النصرُ بعد ولا لاحت أفقُ الهدنة، وبرغم ذلك افتعلنا طقوس العيد لأجل من نحب، وزعنا العيدية وانتظرنا ضيوفاً راحلين بأطباق الكعك على عتبات الأبواب، زُرنا شهداءنا في المقابر وما أكثرهم فلم نعد ندري على من نبكي ومن؟! ربتنا على أكتافٍ كُثر وكفكفنا دموعاً كُثُر وكم نحن بحاجة لمن يحنو على غصةِ قلوبنا...
افرحوا بعيدكم وأسعدوا أطفالكم فقد تُحرمون من متعته يوماً ما، عيشوا اللحظات بحلوها ومرها ولا تتركوا عذراً للظروف، لستم ملامين بما يُمليه عليكم وليّكم، فما نحن سوى بيادق يُثيرون فوضتها وبنقرة إصبع يُخمدونها!
يا صديقتي عيدنا يتيمٌ مشغولٌ متنقلٌ بين بيوتِ العزاء وحلقات النحيب، وعيدهم يجمعُ الفُتات لثكالى قد عافوا ملذات الحياة؛ فتراهم أخيلة تمر في الشوارع، ازدادت سُمرةُ بشرتهم واحدودبت ضهورهم وتجعدت جباههم مما يُلاقون من ألوان الموت...
لا ترسلوا لي التهاني بالعيد، لا تقولوا "كل عام وأنتِ بخير"؛ فلسنا كذلك، بل قولوا "لا أعاد الله عليكم العيدَ وأنتم ميتون على قيد الحياة"، أو كفّنونا بدعواتٍ بيضاء تحملنا بعيداً نحو السلام المطلق...
والسلامُ مازال هو الختام...