يُمسكُ بمقبضِ الركوة التي وضعها للتو على النار، يُسهبُ في مراقبة اللاشيء، يسرحُ في تحليلٍ أضناه، لم يُلقِ بالاً لثورة القهوة على جدران الركوة، تفور كما تثورُ أفكاره الآن، تتحرر، تنسكب، تملأ الموقد دون أن يلتفت لذلك، أخيراً يفيقُ من غفلته على صوت جرس الباب، ينتبه لما خلفته الثورة من خراب، يُطفئ الموقد بحوقلة تُرافقها تنهيدةٌ خائرة، ثم يتجهُ نحو الباب يُلبي الطارق، يفتحه ويدخل دون أن يُبدي أيَّ ردة فعل، يمسكه صابر من ياقته موبخاً:
_ إلى متى ستبقى على هذه الحال؟ لستَ الوحيد الذي فقد والده، أفق وأكمل المسير!
نظر آدم إليه بشيء من اللامبالاة وبقي ساكناً محافظاً على صمته، تركَ صابر الياقة وأكمل:
_قضيتَ وقتك كله في العمل، اعتكفت أمام شاشة حاسوبك تراقب أسعار البورصة تحاول اصطياد فرصةٍ ثمينةٍ تقلب حياتك رأساً على عقب، ظننتَ أن الثراء قد يحالفك كما حالف برنارد أرنو يوماً! انعزلت عن الآخرين في سبيل تحقيق ثروة طائلة، تشبثت بلوحة المفاتيح أكثر من أمك يا رجل! فقدتها وبكيت، ثم اكتئبت ثم عُدتَ ثانيةً إلى بورصتك، والآن تفقد والدك وتُعيد للديباجة سيرتها الأولى...!
صرخ آدم من وقع كلماته التي كانت أحدَّ من السيف، أغلق أذنيه بكفيه مغمضاً عينيه خجلاً مما قيل وربما من صابر! ثم أطلق عنان صمته:
_اصمت، اصمت بالله عليك، لا تزيدني هماً على هم، يكفيني وجع الفقد والفراق، إنني مخطئ أعترف، ضيعتُ عمراً بعيداً عن حنانهما، كنتُ أظن أنني بذلك سأنتشلهما من القاع إلى القمة، والآن تركوني وحيداً معلقاً بلا قاعٍ يعترفُ بي ولا قمة أزيدها شرفاً!
_لا عليك أمامك متسعٌ من العمر للتغيير، سيغفران لك إهمالك ذاك، الآن انهض وابدأ من جديد، قَوِّم نفسك قبل أن يُداريك التراب...
وبعد أن فاض ما في القلوب، وسكنت أمواجها، صارح آدم صابر برسالةٍ قد تركها له والده قبل وفاته، أعاد قراءتها مراراً وتكراراً دون أن يفهم مغزاها؛ فقرر عرضها عليه:
"تحية لمن أنسته المشاغلُ ذِكرها، أما بعد...
ولدي الحبيب أعذرني فلم تُسعفني ظروفي على توريثك المال، عقاراً فارهاً أو شركة أعمال، لكنني سأورثك هذه الوصية، إن حللتها عِشت أبداً عيشةً هنيّة، وإن لم تفطنها باتت حياتك منسيّة: "ثلاثةُ جيران أحدهم يعيش لآنه، وآخرٌ قبع فيما فات أوانه، وثالثهم يستجدي آنٌ في غير آنه، جاور حيُّهم تَعِش!" والسلامُ ختام..."
استغرب صابر من نص الرسالة الذي لم يوحِ له ببصيصِ أمل؛ فتركَ الأمر تحدياً لصديقه ليخرج من حالته تلك، فربما كان الوحيد القادر على حلها، غادره على أمل أن يتبدل حاله!
في صباح اليوم التالي، عقد آدم نيته على التغيير؛ فخرجَ من بيته لقليلٍ من المشي وتأمُّل الطبيعة، في طريقه قابلَ العم (فِكري) جارهم في الحي يجلسُ أمام دكانه العتيق يُناظرُ المارة، ردّ آدم التحية وجلس يطمئنُ على حاله:
_كيف حالكَ يا عم فكري؟
نظرَ بابتسامةٍ بريئة شابهت ابتسامة طفلٍ عثر على من يلعب معه:
_أهلاً أهلاً صديقي الغالي والحبيب! ياااا له من زمن يا رجل، لم أركَ منذ مدة!
_سعيدٌ والله بهذا الترحاب، ظننتكَ نسيتني من قلةِ اختلاطي بكم...
_أنساك، معاذ الله يا شوكت! قضينا عُمراً سوياً في حرب ٧٣، كيف أنساك وقد لقّنا العدو درساً عندما أمطرناه بالقنابل!
همهم آدم لنفسه:
_يا حبيبي العم (فِكري) فِكره قد سافر، اللهم أعده سالماً غانماً!
ثم تابع مع العم فكري:
_طبعاً، أتذكر ذلك جيداً، ولا سيما عندما أبرحتُ جندياً ضرباً!
أطلق العم فِكري قهقهة عالية اهتزّ لها منكبيه المقوسين، ثم قاوم الضحك ليِكمل:
_جندي؟! أي جندي يا شوكت، كنا في سلاح الجو يا صديقي، لا بد أنه ألزهايمر! أكثِر من المكسرات يا (شوكشوك) إنها تقوي الذاكرة، هات يدك خذ حفنة...
شاركه آدم الضحك والحديث، ثم أخذ المكسرات واعداً إياه بزيارةٍ قادمة. يُكملُ طريقه محدثاً نفسه:
_مسكين العم فكري، يعيشُ في الماضي، يختلقُ أشخاصاً وظروفاً لزمانٍ قد ولّى لكنه يُريحه، يجد فيه أُنسه، يجلبُ منه كل الذكريات والأصدقاء، يمازحهم، يشاركهم الحديث، ثم يُعيدهم إلى زمانهم ويبقى هو هنا يتحسرُّ عليهم، لحظة! لقد وجدت الحل... (لزمانٍ قد ولّى) هي نفسها (وآخرٌ قبع فيما فات أوانه) أجل إنه يقصد العم فِكري مريض ألزهايمر الذي يعيشُ ما تبقى من عمره حبيس الماضي والذكريات، وإنها لعيشةٌ ضنكى أن يضيع عمرنا في التفكير فيما مضى غير مستمتعين باللحظة الحالية، صدقت يا أبي...
قطع اتصال صابر حبلَ أفكاره، هاتفه يدعوه لحضور حفلة خيرية تقيمها (مستشفى الأمل) في مساء الغد علّها تمنحه حافزاً للتغيير، وافق آدم على اقتراحه ممتناً لاهتمامه رغم بعده وانشغاله عنه في الآونة الأخيرة.
في التاسعة من مساء اليوم التالي وقفَ آدم مشدوهاً أمام باب المستشفى (مستشفى الأمل لمرضى السرطان)! ما السبب الذي يجعل صديقه يتردد إلى هذه المستشفى؟! دخل وقلبه يرتجف مما تبادر إليه من إحساس، دخلَ مغالباً مشاعره في تلك اللحظة، دخل ليجد بهجةً ما وجدها في الخارج، قلوباً تنبض بالحياة أكثر ممن يدّعون امتلاك الصحة، بالونات ملونة، مائدة ممتدة تنوعت أطباقها وأصنافها، أشخاص تباينت أعمارهم ما بين الطفولة والكهولة، طفلة حليقة الرأس تقترب بفستانها الزهري تُهديه وردة الاستقبال، يأخذها ويطبع قبلةً على كفها تقديراً لطاقتها الإيجابية التي منحتها له على شكل وردة. أبصرَ صديقه من بعيد، لوّحَ له فأتاه في الحال كماردِ المصباح، نظر إليه وكأنه اللقاء الأول، رآه كما لم يره من قبل، جسدٌ هزيل ينهش منه المرض، لكنه يقاوم يعلن عليه الحياة، يحكم على استعماره بالإبادة، يعيشُ كل لحظة وكأنها الأخيرة في حياته، يحيا ليستمتع، ليعبد الله، ليعطي كل ذي حقٍ حقه، ليَبرَّ في معاملاته، يعيش اليوم، اليوم فقط، هذه اللحظة فقط من تستحق التقديس.
ابتسم لصديقه ابتسامة رضا، عانقه بقوةِ مَجرّة، وأدركَ في نفسه أنه الجار الذي يعيش لآنه، والأهم أنه أيقن أنها الحياة الأمثل أن تعيش للحظتك فقط، أن تلفظَ كلَّ همٍ وغم وتراعي علاقاتك مع الآخرين لربما تفارقهم غداً!
بعد ليلةٍ حافلة بالمشاعر الجميلة، عاد آدم إلى بيته وقد زادت حصيلته من فهمٍ لمعادلة الحياة، باغته فضوله في معرفة الجار الثالث، لكنه الآن على موعدٍ مع النوم فغداً يومٌ شاق...
أشرقَ الصباح وأشرقَ معه وجه آدم الذي أبكرَ في ترتيب المنزل وتنظيفه، فلم يُنظفه أحد منذ فترة طويلة، لكنه هذه المرة سينظفه بنفسه، ففي النظافة روح جديدة يكتسي بها البيت تعيد لأرواح ساكنيه النقاء.
انتهى من جولته واتجه نحو مكتب والده يُرتب الأوراق، وإذا برسالةٍ على سطحه، فتحها:
" تحيةٌ لحياتك الجديدة، أما بعد...
وُلدتُ لأحملَ الهمَّ رقماً وطنياً لهويتي الشخصية، وُلدتُ مُكبلاً بذنوبِ آخرين، عِشتُ تتلاقفني الكفوف وتتقاذفني الأحضان، عِشتُ كطبقِ رمضان أتردد من بيتٍ لآخر لحينِ ذرية صالحة تغنيهم عن اقتنائي، كبرتُ وبدأت تلاحقني التهم ويُشار إليّ بابن الخطايا، عِشتُ أخشى القادم، أخشى الزواج بذريعة النسب، أخشى الإنجاب بحجة تجنب مثل هذه المواجهة، تزوجت وابتعدت أخلقُ حياةً جديدة نزعتُ منها أي علاقة بالماضي، لكنني بقيتُ خائفاً من المستقبل، خائفاً عليك من أي شيء يعرقلُ حياتك بسببي! أجل أنا الجار الثالث، لا تعش مثلي، تعلّق بالله و"لا تنسَ نصيبكَ من الدنيا"."
ضغط بكفيه على الرسالة، شدّها نحو قلبه، ثم أخرج صرخةً من محرابها تُدمي قلوب الخاشعين، جثا على ركبتيه يبكي حال أبيه ويبكي حضناً بخل به عليه، حضناً يأوي غربته لطالما احتاجه، وأخذ يردد والدموع تنهار من عينيه: "يا حسرتا على ما فرطتُّ في جنب الله..."، ما أن انتهى حتى صدح المؤذن بأذان المغرب وكأنه اليقين، رسالةٌ من الله بأن أكمل فقد حللت لغز الرسالة، استحققتَ الوصية وبانت لكَ الطريق...