ما فعلته المليشيات لا يمكن للعقل أن يتصوّره، ولا للقلب أن يحتمله. بشاعة خرجت من رحم الهمجية، وخطورة امتدت كالنار في هشيم العمران، أفعال وحشية لا تشبه البشر ولا تشبه السودان. من يرتكبها ليس مجرد مأجور يؤدي مهمة، بل كائن تجرد من إنسانيته، وفارق كل ما يعرفه الضمير. لهذا لم تجد اللغة وصفًا أدق من كلمة "مليشيا"، فهي الاسم الذي يليق بالفعل، والمرآة التي تعكس بشاعته.
قبول هذه الجرائم ـ ولو بالصمت ـ يعني أننا خسرنا أول ما نملك: إنسانيتنا، ثم تنازلنا عن جوهر هويتنا السودانية، عن أعرافنا ومواريثنا التي قامت على الشهامة والكرامة وصون الأرواح. إنّ ما ارتُكب لا يمتُّ إلينا بصلة، بل هو غريب عنا كما الغراب عن حمائم السلام.
أي ديمقراطية تلك التي يتذرّعون بها؟ الديمقراطية لا تُشيَّد على التهجير القسري، ولا تنبت في مقابر مفتوحة، ولا تُروى بدماء الأبرياء. لم تُعرف الديمقراطية يومًا وهي محمولة على أكتاف الموت، ولم تتصالح مع بيوت الأشباح، ولا مع الاعتقالات والتصفيات، ولا مع الحرائق التي تبتلع البيوت، ولا مع منع الناس من دفن موتاهم بكرامة.
كيف يتجرأ قاتل أن يزعم أنّه جاء ليحكمنا؟ أي حكم ذاك الذي يبدأ بالنهب وينتهي بالدمار؟ لقد تركوا وراءهم رمادًا يصرخ، وقرىً محروقة تشهد، وجثثًا تتحلّل في الطرقات لتقول للتاريخ: هنا ارتُكبت واحدة من أبشع المجازر. والتاريخ لا يرحم من تواطأ أو سكت.
الناجون من هذه المأساة لم يعودوا يرون في وطنهم سوى أطلال، بيوتًا تحوّلت إلى أشباح، وشوارع امتلأت بعظام الأبرياء وبقايا الجثث التي لم تجد من يواريها التراب. في أي قلب يمكن أن يولد تصديق أنّ هؤلاء يريدون الخير للسودان؟ مستحيل، ورب السماء.
إن دم السوداني ليس سلعة، ولا كرامته ورقة للمساومة. هو دم كريم، وتاريخ عريق، وهوية ضاربة في الجذور. ومن يظن أنّ الأيام ستغطي على الجريمة فواهم، فالتاريخ يفضح، والزمن يكشف، وأصوات السودانيات والسودانيين ستظل تصرخ في وجه الهمجية: نحن أبناء الحياة، لا أبناء الموت.