شعرنا للحظات أننا لسنا في السودان. في قلب النيل الأزرق، وتحديدًا في مدينة الدمازين الفاضلة، كان المساء ناعمًا كأحلام الطفولة، والسماء صافية كدعاء أمّ في آخر الليل. هبط المطر بهدوء العائد بعد غياب، كأنما يقول للمزارعين: "أنا هنا، حيث الانتظار والترقُّب."
جاء المطر الذي انتظره الفلاحون بلهفة، بعد أن أرهقهم القلق، وأثقل كواهلهم صمت السحاب. فمواسم الزراعة أصبحت غير مأمونة، والمطر بات يتأخر عن مواعيده المعتادة، نتيجة تغيّر المناخ الذي أخلّ بنظام الكون وطمأنينة المزارعين.
أولئك الذين دفنوا بذورهم في أعماق التربة كانوا ينتظرون هذه اللحظة بفارغ الصبر، ليبدأ الحلم بالنمو. أما من لم يُنجزوا العمليات الزراعية الأولى – من حرث وتحضير – فقد أدركوا أن كل تأخير في هطول المطر يعني مزيدًا من الجفاف، وتعذُّر زراعة بذور تُعرف بارتباطها الوثيق بشهر يوليو. وإن تجاوزهم الزمن أكثر، ضاعت عليهم فرصة الموسم بأكمله.
لكنها أمطرت. دون سابق إنذار، دون سُحب مُعلنة، فقط صوت الأرض يتنفس، والماء يطرق أبواب الرجاء. أمطرت كأنها تقول: الرحمة لا تُنسى، والله لا يُخلف وعده.
وصفها أحد المزارعين قائلاً: "كأنها حلم شيخٍ مسن تحقّق أخيرًا أمام عينيه." أما نحن – وإن لم ندرك أهميتها للمحاصيل كما يدركها أهل الزراعة – فقد كنا بحاجة ماسة إليها أيضًا. جاءت لتمحو الحشرات الطائرة، والذباب الذي غزا البيوت، وكأنها تطهّر الجو قبل أن تهدهده بنسيمها.
كانت لحظات المطر تلك، كما يصفها أهل المدينة، تشبه الطقس الأوروبي. لا غبار، لا دخان، لا ضجيج… فقط الأرض تتنفس، والناس يبتسمون في صمتٍ ناعم. الشمس احتجبت قليلًا، وكأنها تُفسح المجال لمشهد آخر، أكثر شاعرية، أكثر رحمة.
وفي الدمازين، خاصة في شهري يوليو وأغسطس، قد تمطر لساعات طوال، وربما ليومٍ كامل، فتعطّل الحياة والحركة، لكن القلوب لا تعترض، لأنها تعلم أن هذا التعطيل لا يُقارن بفرحة الأرض، ولا بارتواء الحقول، ولا بتلك الدموع التي تسيل صامتة من أعين المزارعين حين يرون زرعهم ينبض بالحياة.