في زحام الحرب وشتات الذاكرة، يولد من بين الرماد وطنٌ صغير يحتضنه كوخ. هذا المقال ليس فقط سردًا لتجربة النزوح، بل محاولة للبحث عن دفء الوطن في أحلك الظروف. مشهد بسيط، لكنه عميق، يعيد تعريف معنى الأمان والانتماء.
من خلال هذا النص، أدعوكم لمرافقتي في رحلة من الألم إلى الأمل، من فقد الرفاق إلى حضن الجد، حيث يولد الوطن من جديد.
أنا كحال الأبرياء الذين يتنفسون الدم ويفترشون جثث أمهاتهم في أكواخ وبيوت النازحين، الحال لا يشبه إلا أحوال يوم القيامة. نحن لم ندرك مصيرنا بعد، الضرب، القتل، والرصاص يختار من الأسرة خيارنا وأفضلنا علمًا وحكمة ودهاء. ننتظر دورنا لكنه يتأخر، ليتاح لنا أن نشاهد بأمّ أعيننا دموع الصغار والكبار، ونسمع صرخات الأمهات والأطفال على حدٍ سواء.
غادرتُ صباحًا باكرًا حتى لا أرى مزيدًا من الدم، ولا أُثقل بصور الأطفال والمآسي. حملت على ظهري طفلًا لأخي الشهيد، وبذلتُ كل جهدي لإيصاله إلى برّ الأمان. على الطريق الوعر، كنت أتخفى كلما رأيت من يرتدي الزي العسكري. أحيانًا أسير كعبدٍ بعد أمتار، وأحيانًا أتلكأ كالعجزة الكبار.
مضينا يومًا كاملًا على أقدامنا بلا طعام، بلا شراب، سوى جرعات قليلة من الماء أعطيتها لحفيدي الصغير. أما أنا، فصمتُ يومًا كاملًا دون أن أتناول شيئًا. التعب والعطش والجوع أنهكوا أجسادنا، ولم تبقَ فينا طاقة تُذكر، لكنّ الرحلة كان لا بد أن تستمر. كنا نهرب من جحيم الحرب والدمار والفوضى، دون أن نعلم وجهتنا.
رأيت رجلًا يبدو طاعنًا في السن، ناديت عليه من بعيد: "أيها الشيخ! أيها الشيخ! قف لحظة من فضلك!" لم يسمعني، وظل يمضي دون أن يلتفت. أصابني اليأس، لكنني أسرعت نحوه، وحين اقتربت أدركت أنه لا يسمع. ومع ذلك، تعاطف معنا، أعطانا ماءً، وأرشدنا إلى كوخ قريب.
كان ذاك الكوخ نقطة التحول. وجدنا فيه رجلًا كهلاً، يحرس مزرعة لم تُزرع بعد. استقبلنا بكرم عجيب، وفتح لنا قلبه وبيته. حكيت له قصتي، فتأثّر بها كثيرًا، ورفع يديه داعيًا لأهالي المعسكر وسط هذا الحال المتأزم.
قلت له إننا سنمكث ليلتين حتى نستعيد قوانا، ونقرر وجهتنا. رحّب بالفكرة وقال: "مرحبًا يا ابني، هذا كوخ جدك ودار العمدة… الدار دارك. فلتبقى كما تريد." دعانا للراحة، وكانت كلماته كأنها بلسم على أرواحنا المتعبة.
استيقظنا باكرًا في اليوم التالي على نشاطه وحماسه، جهز لنا الشاي، وجلسنا في جلسة دافئة مليئة بذكريات الأجداد. حدّثني عن جدي، وقال إنه كان مضربًا للمثل في الفروسية والكرم. حمل خنجرًا قديمًا يخصه، وضعه على جبهتي، وقال: "جدك حين كان يحمل هذا، كانت الطيور تهرب من أعشاشها… لا يخرجه إلا لأمر جلل."
كوخ الجد في قلب تلك الأرض المجهولة، لم يكن مجرد ملاذ، بل وطن. وطنٌ حين تغيب الأوطان.
ربما لا يكون الوطن أرضًا فقط، بل شعورًا نحمله معنا… كوخ صغير، كلمة طيبة، أو حتى ذكرى تحفظنا من الانهيار.
شاركوني رأيكم، هل مررتم بكوخٍ يشبه وطني؟