ثمة لحظات في الحياة لا تأتي على هيئة قرارات مدروسة، بل تنبثق من الداخل كموجة حقيقية لا تقاوم. لحظة الصدق مع النفس، حين تتكشّف الرغبات العميقة، وتتساقط عنها كل أوراق المجاملة، تلك اللحظة قد تكون مؤلمة، لكنها ضرورية؛ لأنها تُعيد ترتيب الفوضى داخلنا.
اليوم أكتب، لا لأفتح جرحًا، ولا لألقي باللوم، بل لأعلن عن عودة كنت أظنها مستحيلة… عودتي إلى ذاتي.
لم أكن يومًا جاحدًا لما جمعنا. كنتِ أكثر من حبيبة، كنتِ وجهًا للحياة حين أظلمت، ونافذة أمل حين ضاق العالم. لا أنكر أنك كنتِ الملاذ حين تكسّرت أبواب الأمان، والرفيقة التي استندت عليها حين خذلتني الطرق. لكن الحقيقة، وهي ما أواجهني بها دون مواربة، أنني ما شعرت بالسلام إلا حين ابتعدت. لم تكن الراحة في وصالك، بل في الانفصال.
ليس الأمر نكرانًا للجميل، بل إدراك متأخر لحقيقة خفيّة: أن العلاقة التي تستنزفك، ولو في سبيل الحب، ليست نعمة بل عبء ثقيل. كنت أظن أنني أسير نحو بناء مشترك، نحو حلم نتقاسمه… لكنني كنت أبتعد عن نفسي شيئًا فشيئًا، أتنازل بصمت عن رغباتي، وأضحي بأحلامي في سبيل علاقة لا تعرف غير المطالبة بالمزيد.
لقد تحوّلت المساحات التي كانت من حق الكتابة، من حق التأمل، من حق الوحدة الخلاقة، إلى ساحات خدمة دائمة لعاطفة تحتاج عنايةً لا تتوقف. ومن وسط هذا كله، بدأت أخسر ما كنت أظنه جزءًا من تكويني: شغفي، موهبتي، وحتى حريتي.
لم أكن سيئًا. كنت فقط مخلصًا، وربما مفرطًا في الإخلاص حتى خنقني. واليوم، حين نظرت في المرآة، وجدت شخصًا بالكاد يشبهني؛ شخصًا أتعبه الركض نحو إرضاء الآخر ونسي أن نفسه أولى بالرعاية.
العلاقات ليست سجونًا، والحب لا يجب أن يكون نداءً للتنازل. ومتى ما صار الارتباط قيدًا، علينا أن نتساءل بصراحة: ما الذي نبنيه، ولماذا؟
لقد قررت أن أنحاز إلى ذاتي، لا أن أتنصل من مشاعري، بل لأحمي ما تبقى منها. قررت أن أستعيد حريتي، لا انتقامًا، بل احترامًا لما ضحيت به من أجل استقرار لم يتحقق. قررت أن أتنفس من جديد، أن أكتب، أن أعود إلى أحلامي التي تراكم عليها الغبار.
ليس سهلاً أن تُفكّك علاقة. لكن الأصعب أن تظلّ فيها وأنت تنزف بصمت.
الآن، وقد خرجت من تلك الدوّامة، أشعر وكأنني تحررت من سجن طويل. لا أكنّ كراهية، ولا أطلب فهمًا. فقط أريد أن أعيش… بشغف، بشجاعة، وبمساحة تكفيني.
وربما، ذات يوم، حين تعودين إلى ذاكرتي، لن تكوني جرحًا، بل درسًا.
أما أنا، فسأكون حيًّا… وممتلئًا بالحياة.