كان ذلك اليوم مبللًا بندى الذاكرة، حين تهادت قطرات المطر على وجه الأرض كأنها رسائل من الغيم. والجو، على غير عادته، يحمل من عبق الربيع ما يكفي لأن تنبت في القلب زهرة. خرجتُ أمتطي جوادي، وكانت هي إلى جانبي، فتاة من المدينة، لكن حضورها يشبه القصائد التي لا تُكتب. جمالها لم يكن ضجيجًا، بل هدوءًا ناعمًا، ينساب من عينيها البيضاوين المحاطتين برموش كثيفة كريش النعام، وعليهما حاجبان كقوسين من نور.
قلت لها، بنبرة خافتة تسكنها البراءة، ويغمرها شيء من الحنين الغامض:
– إن فُزتِ عليّ اليوم، أعدك أن أترك السباق...
لكنها لم تتركني أُكمل. قطعت عليّ الحديث، وضحكت تلك الضحكة التي تشبه الرعد الخجول:
– توقّف، لا تُكمل...
نظرتُ إليها وقلت، بنبرة صارمة هذه المرّة:
– لن أترك فقط الميدان… بل سأخوض سباقًا آخر، أصعب وأطول… صراعًا من أجل أن أخطف قلبك، وعقلك، وعالمك الذي يسكن فيك. لقد عاهدت نفسي، منذ أن رأيتك، أن أكون فارس حياتك، لا فارس مضمار.
في زماننا ذاك، لم يكن التعبير عن المشاعر مباحًا، بل كان حقل ألغام مزروعًا بالعادات. وإن حدث، جرت العادة أن يتخذ المحبون طريقًا ملتويًا: صديق ينقل الهمس، أو صديقة توصل النظر. لقاء الفتاة في العلن كان حلمًا معلقًا، بل جرمًا في نظر كثيرين، ومن تجرأ عليه، نُفي صامتًا… أو حُوكم علنًا، وكانت الحجارة أحيانًا وسيلة "تهذيب".
أتذكّر جيدًا، في موسم حجٍّ قديم، حين أقيمت ندوة في ساحة المدرسة، اجتمع الناس، وكان فيهم العمدة وكبار أهل المنطقة. صعد شابٌ يحمل من العلم والكاريزما ما يجعل السكون ينصت. تحدّث أولًا عن شعائر الحج ومقاصده، ثم فجأة انحرف بالحديث إلى واقعنا الاجتماعي، وكأنّه يخلع عباءة التقليد ليرتدي ثوب الجرأة.
قال بوضوح:
– زواج القاصرات ليس شرفًا… بل جريمة مغطاة بالمهر!
خاطب الآباء بحزم، وحذر من تزويج الطفلات، ورفع صوته مخاطبًا الشباب:
– التزموا بإرثكم، نعم، لكن لا تجعلوه قبرًا لأحلامكم.
وطالب بتقليل المهور، وتيسير الزواج، وقال إن الشباب هم وقود النهضة… متى ما أُعطوا فرصة للحياة.
كانت تلك أول خطبة في منطقتنا تلامس هذا الوتر الحساس. لم يُقابل حديثه بالرفض، بل بالصمت المذهول، كأنّ شيئًا قد كُسر في الأعماق، أو كأنّ بابًا كان مغلقًا منذ دهور، قد انفتح على مصراعيه.
ومنذ ذلك اليوم… بدأنا نجرؤ على التفكير، وبدأ الحب يمشي على قدمين في وضح النهار.