تأخر السودان كثيرًا عن اللحاق بركب النهضة الحقيقية التي ظلّ المواطن السوداني يحلم بها منذ ستينيات القرن الماضي. فرغم التضحيات المتكررة، والانتفاضات التي سطّرها الشعب في وجه الاستبداد، إلا أن معظم الحكومات التي تعاقبت على إدارة الدولة فشلت في تحقيق أبسط تطلعات الشعب نحو التنمية، والاستقرار، والازدهار.
كان من الممكن أن تقودنا أي حكومة ذات رؤية إلى لحظة تحوّل حقيقية تغيّر البنية الداخلية للدولة، وتُعيد تموضع السودان في خارطة الاقتصاد والسياسة إقليميًا وعالميًا. لكن الواقع، للأسف، سار في الاتجاه المعاكس. فقد تحوّلت الحكومات إلى عائق أمام التنمية، وتحوّل المواطن إلى مقاوم دائم لظلم السلطة وفشل مؤسساتها.
لا يحتاج السودان إلى هذا العدد الهائل من الوزارات والمؤسسات التي تحوّلت إلى عبء اقتصادي وإداري خانق. بل إن فشل بعض هذه الكيانات لم يعد مرتبطًا بأشخاصها فقط، بل بالمناصب ذاتها. فالكرسي الوزاري لم يعُد موقعًا لصنع القرار، بل بات مكانًا لتدوير نفس السياسات الفاشلة.
خذ مثلًا وزارة المالية، كموقع سيادي وإداري حاسم. لم نشهد في السنوات الماضية نقلة نوعية في طريقة إدارة الاقتصاد، إذ ظلت أساليب التخطيط والطرح والتفكير واحدة، تتكرر مع كل وزير جديد كأنهم نسخة واحدة بوجوه مختلفة. لا تغيير في الرؤية، ولا تحديث في أدوات السياسة المالية، ولا جرأة في مواجهة الواقع.
المعضلة الكبرى التي يواجهها السودان اليوم لا تتعلق بمن يتولى المنصب، بقدر ما تتعلق بكيفية إدارة الدولة. فالأنظمة السياسية، سواء جاءت عبر انتخابات ديمقراطية أو انقلابات عسكرية، لم تفلح في تغيير هذا النمط السائد من الفشل المتوارث.
الخطاب السياسي لم يتغيّر، بل ظل حبيس الوعود ذاتها التي سمعناها منذ التسعينات: "سنُوصل الكهرباء، سنُعبد الطرق، وسنُمدّ شبكات المياه". وها نحن اليوم، بعد ثلاثة عقود، ما زلنا نسمع الخطاب نفسه، بنفس الأسلوب، وبذات الحماسة، كأن عقارب الزمن لا تتحرك في السودان.
النهضة ليست شعارًا، بل هي بناء متكامل يبدأ بإصلاح الإدارة، وتغيير الثقافة السياسية، ووضع حدٍ للعبث بالمناصب كغنائم حزبية أو أدوات ولاء. السودان لا يفتقر إلى الموارد ولا إلى العقول، بل يفتقر إلى الإرادة السياسية الحقيقية، والنظام العادل الذي يُحاسب ويُخطط ويُنظم.
ما نحتاجه اليوم ليس مزيدًا من الوزراء ولا خطابات الأمل، بل ثورة إدارية حقيقية، تجعل من المنصب مسؤولية، لا مجرد واجهة، وتجعل من الحكومة جهاز خدمة، لا سلطة فوق الناس.