تحليـــل لكتــــاب ــ ما زال ....ـــ للكاتب الأستاذ محمد حلمي أبو دياب
-----
واضح أن الواقع ومن خلال الكتاب ( مازال ...) له أثر كبير على الكاتب محمد حلمي أبودياب، فالكاتب هو إنسان وضروري أ ن موضوع الماء بكل تبعاته وبماله وما عليه، استحوذعلى فكره بصورة كلية لذلك :
ـــ أولا :
سأبدأ تحليلي من الناحية الواقعية للموضوع :
مما يسترعي الانتباه منذ الصفحة الأولى للكتاب أن البطل إن صح التعبير المدعو نفاذي يضطرب كثيرا ويتوه خوفا عدم اللحاق بالطائرة التي ستقله إلى مهمته بأثيوبيا في مؤتمر دول حوض النيل حول مياه النيل وهذا يدل دلالة واضحة أن الموضوع ليس هينا في ذهن الكاتب ومما ستؤول إليه حال بلاده وحال العباد أيضا وقد ركز على هذه النتيجة عبر صفحات الكتاب جميعها .
ـ 2ــ
وصدق عندما طرح السؤال : (إلى أين المآل؟ وكيف يمكن تغيير الأحوال إلى أفضل حال؟ وكيف نواجه الأهوال لنحقق الآمال ؟ وما زال ...).
عنوان الكتاب أيضا استقاه الكاتب من واقع الحال وهو ليس طرحا لما هو موجود فقط بل يكتنفه غموض المستقبل وحيرة كبيرة أمام انعدام الحصول على حل ،وارتياب كبيرأمام أسئلة حادة تحفر دماغ الشعب وترن في دماغ نفاذي وبالتالي في دماغ الكاتب خاصة أن نفس الأسئلة المحرقة على مدى كل صفحات الكتاب مما يجعل القارئ يشعر برهبة وخوف يماثلان رهبة وخوف المسمى ( نفاذي) كما جاء على لسانه في حواره مع هنادي الشخصية الرئيسية الأخرى في هذا الكتاب ـــ رغم أن دورها جاء لاهيا متغافلا عن واقع الأمر بأمر زواجها و اقتصر فقط على كونها حبيبة وخطيبة نفاذي ــ يقول لها : ( الشجر المقطوع ، الخضرة اليابسة ، الماء الملوث.....) ويقول في حوار آخر: ( إن ماء النيل تلوث بأخلاق الخلائق) .
هذا طبعا يقود القارئ المتيقظ ،الذكي إلى قراءة أخرى وهي إفساد الأرض والخلق وتفقيرالشعوب وتعطيشها ماديا ومعنويا وهذا هدف استعماري قديم بينه الكاتب في
ـ 3 ـ
فصل المحاكمة ، ويا لها من محاكمة تقشعر لها الأبدان استدعي لها شهود التاريخ أحياء وأمواتا وحتى الأرض نفسها انتفضت لتتكلم عن هذا القهر والظلم الكبيرين ،
وكأن الكاتب بأسلوبه الهادئ والرصين ، العاصف والمهول في نفس الوقت، يريد من القارئ أن يقف ويكون شاهدا على أبشع وأكبر الجرائم التي تنفذ حاليا في حق الإنسانية وخاصة ببلده مصر العريقة في التاريخ وشعب مصر الذي ناضل بالنفس والنفيس ضد هذه الجريمة منذ فجر التاريخ وهي حرمان شعبه من مياه النيل والذي هو أساس الحياة كما جاء على لسان النيل نفسه وهو يصرح للقاضي : ( قدمت للإنسان حياة وحضارة ومدنية وتقدما ويا ليت الإنسان عرف نعمة الله ، لكنه ظلم .)
وبكل وجع وألم ، لا ينسى الكاتب محمد حلمي أبو دياب أن يبرز ما تتعرض له مصر من كيد الأعداء وما يلحق المجتمع ككل من تسميم لأفكار أبنائه والكلام والإعلام والأقلام الشيء الذي يقتل العقول و الأ فهام وهذه معضلة أخرى لا تقل عن معضلة مياه النيل ويكون بذلك وضع أصبعه على الجرح بل أجرى عملية جراحية بحالها لحاضر مريب ومريض تعيشه بلاده
ــ 5 ــ
وذلك بقوله : ( السؤال الذي يصرخ في آذان كل المصريين الآن : (ماذا ستفعل الشعوب من أجل قطرة ماء ؟ بل كيف ستتحرك الحكومات من أجل قطرة الحياة ؟).
وفي الفصل الأخير يأتي الحكم قاسيا من القاضي بالإعدام عطشا لكل من يلوث مياه النيل ، لكن النيل لا يرضى بذلك فعاطفته تغلف كل مصر من خلال توضيحه للقاضي ( أن النيل الذي يهب للشعب الحياة لا يصح أن يكون سببا في الإعدام والوفاة .)
من الناحية الأسلوبية للكتاب ، وبموضوعية تامة فالكاتب كان كمن يحمل جمرة حارقة ،ملتهبة بين كفيه لا يعرف أي جنس أدبي يلبسها ليبلغها إلى القارئ كما يريدها واضحة وعارية من كل الشوائب وبواقعها المر فكان يتأرجح تارة بين الأسلوب القصصي وتارة أخرى أسلوب سردي تقريري لوقائع وأحداث تاريخية ومرة أخرى يغلب عليه الأسلوب المسرحي وقد التجأ إلى الأسلوب الغنائي أيضا متوخيا من كل ذلك التعبير بوضوح وأمانة عن قضية مياه النيل والتي هي عصب الحياة وروحها في مصر بأسلوب جذاب ، متنقلا بين الأجناس الأدبية من الرواية إلى القصة إلى المقالة إلى
ــ 6 ـــ
سرد لأحداث تاريخية ومساهمة حكامها في بناء هذه الدولة العظيمة.
وقد شفع له في ذلك أهمية الموضوع وصدق الكاتب في نقل إحساسه للقارئ بحرية وأريحية فيظل القارئ مشدودا إلى كل الأحداث يتابعها بدهشة وإحساس يتأرجح بين الخوف من المستقبل والغضب من الحاضر كما أراد الكاتب تماما ، فيكون هذا الكتاب عملا فنيا ،إبداعيا ، متميزا ،كبيرا ،عميقا جدا مما يجعل له مقومات العمل المرموق ، الجاد والفاعل الذي يجب أن يستنير به الرأي العام ككل .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ