على عرض الطريق المتعب ومن خلال حرقة الحقد والأرق الدائمين، ألقى الرجل بنظره من وراء زجاج نافذة الحافلة وقال باستنكار:
ــ الجو فظيع.
وكأنه يوجه الحديث إليها .
لم تأبه له ، بلا إرادة منها نظرت إلى ماسحات الزجاج الأمامية ، إنها لا تؤدي عملها على أحسن ما يرام
لم يتبين معالم وجهها ، خطا خطوتين إلى الأمام، ليقابلها وقال في نفسه:
( هكذا يفعل الآخرون ).
كانت ضربات قلبه تضطرد ، وتتسابق ، وكاد أن يسمعها.
( لماذا هذه العادة السيئة ؟ كيف أفعل ؟)
احتار كيف يبدأ حديثه معها ، تأملها طويلا..
( أي نوع هي ؟ كيف ستستقبل كلامه ،هل يتجه إليها بلباقة ، أم يفعل كما يفعل الآخرون، يجب ألا أكون غبيا ،أنا حر في أن أقول ما أشاء ، لو صرخت في وجهي ، أقول لها بكل برودة "أنا لم أتحدث إليك بالذات ، إنني أكلم نفسي فماذا تريدين ؟ لكن أين الجرأة ؟ ولماذا الصمت؟ الحافلة تقترب من مكان النزول ـ مشكلتي أنني لا أعرف كيف ابدأ الحديث معها، يجب أن أعرف.
لن أضيع هذه الفرصة التي حلمت بها لمدة طويلة ،إنها تجلس أمامك ، تشجع ــ تكلم ــ كما يفعل الآخرون .
مرة أخرى نظر إليها بإمعان:
"إنها جميلة ، شعرها الذهبي ينسدل على كتفيها وخصلات منه تتموج على وجنتيها ، مداعبة إياها ــ وسحر عينيها ! سحر عينيها ، يبدو منطفئا)!
ـ لا شك أنها تفكر
كانت فعلا غارقة في التفكير ، حلمت حلما غريبا أو يكاد ـ
رأت نفسها واقفة على صخرة في مكان مجهول ، انشقت الصخرة شطرين ــ انغرست وسطها ، لم تستطع الحراك ، صرخت ، حاولت إزاحة شطري الصخرة بكل قواها ــ عاودت الكرة ،وكلما ازدادت قروح يديها ازدادت قوتها ، صبغت الصخرة بالدم ، لكنها لم تستطع الانفلات .
قالها بصوت خافت ، غابت وراء جدران الدم، خرجت كلمة تسبح في فضاء مخنوق ميت .
ــــ آنســــة ؟
حركت الآنسة رجلها اليمنى ووضعتها إلى جانب اليسرى وهي تظن أنه أراد المرور .
هكذا حتى في هذا الوقت القريب البعيد الذي يقاس بالفراسخ، ومسافات انتشار النور، يظهر أن هذا الوجه ليس مدينة تحاصر، ليس جسدا ينزف دمه مرة واحدة.
هكذا يتكلم معها ولا تفهمه ،ما زالت غائبة ، وتحركت يديها اليسرى لتستقر على يدها اليمنى ،
أصابع اليد اليسرى، خاتم الزواج، يا للخيبة الكبرى تحتل قلبه وعقله.
محطتان وتصل الحافلة .
يا للزمن البعيد ، ينصرف به إلى مدن وقرى تهدم فيها كل الأركان، وهو في القاع تعصف به الرياح وترشقه الأمطار الغزيرة بسيلها الجارف ، وجانبا الصخرة ينفتحان، يبتعدان عنها شيئا فشيئا ، وتتلوى ، تتضور، تحارب القدر وتدفع بيديها المعروقتين الصخرة بكل عنف ، وتستطيع أن تخرج نصفها الأعلى من المأزق ، ويداها مخضبتان بالدم وعيناها الحمراوتان وحلاوة صراعها الأبدي المرير ، الطويل ضد الصخرة ،كل ذلك يزرع في كيانها حب تغيير الطقوس الجامدة .
وصلت الحافلة بزفيرها المعتاد ودخانها الكثيف إلى المحطة ما قبل وصوله .
إنه خائف، وجل، ينظر إليها، يحملق فيها وكأنه بنظراته المتغطرسة يستطيع أن يثبتها في مكانها، يأمرها بالبقاء .
ولم تنزل ،
تنفس الصعداء، والتنفس في الحافلة شيء صعب للغاية، رغم أنها متزوجة فإنها تهمه، أثارت إعجابه ، سيتعقبها وسيتحدث إليها .
لكن كيف وهي بعيدة عنه، قريبة منه، غارقة في التفكير ؟
ويبصق على حظه السيء، أول مرة يفعلها في حياته ، أول مرة يريد أن يتحدث إلى امرأة بهذا الإصرار.
صاح فيه الجابي :
ــــ البصق ممنوع يا بشر!
لم تنتبه لا إلى الجابي ولا إليه، الأفواه ذات الأشكال الهندسية المتنوعة تلوك الضجيج، والحياة داخل الحافلة.
غمامة رمادية مكفهرة، والعيون المتعبة تقذف ببقايا نار، شظايا نصفها منطفئ، وعيناها لا تقذفان بشيء، إنما هي منطلقة تسبح في فيافي شاسعة
سيتحدث إليها ، وبأية طريقة، ويخطو خطوتين إلى الوراء ، أية فكرة بشعة تجول في خياله ــ لا لن يفعل كما يفعل الآخرون ــ ويسترق النظر إليها ، لم تهتم لتحركه ( لماذا؟ لماذا تثير فيه هذه الرغبة في تحطيم اي شيء ؟.
يدوس قدمها متعمدا وبقوة ، هكذا يفعل الآخرون .
ستثور ، ستصرخ بوجهه :
ـ" ألا ترى ؟" .
سيجيب بهدوء واحترام:
ــ أرجو المعذرة سيدتي .
لا ،هذا ليس جوابا ، بل سيكون الجواب هكذا، بقسوة وعنف سيرد :" ــ إنها الحافلة، ألا ترين الاهتزازات ــ وإذا كنت غير راضية فما عليك إلا أن تشتري سيارة لنفسك" .
ستنظر إليه شزرا وهي غاضبة وتقول : "ـ لماذا لم تشتر أنت واحدة ؟ كلكم صنف واحد تدوسون الأقدام وتتهمون الحافلة ".
سينظر إليها مستعطفا وبصمت ، ريثما ينشغل الركاب بحديثهم ا للانهائي ويقول :
ــ " على كل ـ أرجو ألا أكون قد سببت لك ألما ،ثم إذا أردت ، فاني استطيع مرافقتك " وسيكمل الحديث ، لن يترك لها الفرصة لكي تعترض، لكن ما بالها لم تثر؟
ينزل السؤال على رأسه كالمطرقة ،
يستفيق من حديثه مع نفسه ، وينظر إليها مغتاظا ، مستغربا ــ إنها غائبة تماما ، لم تعره اي اهتمام رغم انه داس قدمها بكل قوته .
أدارت رأسها ناحيته ونظرت إليه نظرة بعيدة مغلفة بالصمت والسكون وكأنها لا تنظر إليه .
تسمر في مكانه، اجتاحه صمت غريب ــ وتذكر ، تحسس جيبه يبحث عن السكين مساعده في نقاط ضعفه ، أحس انه فقده وفقد معه قوته ، لعن موقفه لعن وجوده ، لعن يوم مجيئه إلى هذه الحياة .
ابتعد خطوتين , انزوى في ركن من الحافلة والصمت يغمره حتى العظم وجموع المترنحين داخل الحافلة تتقاذفه ولا يهتم،
لم يدر كيف مرت الدقائق الأخيرة اللازمة لوصول الحافلة .
ووقفت الحافلة .
أحس أن قلبه يكاد يتوقف عن الخفقان .
أخذت الحافلة تتقيأ حمولتها الثقيلة ، وكانت هي من ضمن الحمولة ،
تأملها وهي تقف وتضع حزام حقيبة يدها على كتفها ، تتحرك بعناية وحذر ، لماذا تميل هكذا الى جانب واحد .
التفت حوله ، الناس ينزلون ركاما وبتثاقل ، حدق إليها باستهزاء وهي تتحرك، كل شيء يبدو متباطئا كحركة الخنفساء.
سقطت من على شفتيه قهقهة سخرية وهو ينظر الى ساقها ، انها عرجاء.! وجالت في ذهنه الفكرة ، " إنني أتعقب عرجاء ."
وانتصرت .
أزاحت نصفها الأسفل من بين شقي صخرة اللامبالاة، لكن حين صراعها بترت قدمها اليمنى، كيف ؟ لا تدري ، لكنها لم تهتم لأنها انتصرت على كل حال.
ونزلت من الحافلة وهي تجر قدمها،
بقي متأخرا حتى لا تظن الظنون، نظر إليها فأصابته رعشة خوف، تذكر السكين، وقفز من درج الحافلة، امتد بصره إلى رجلها،
شعر بالحاجة الى الصراخ!
"إنك عرجاء لا تستطيعين القفز".
داعبت ابتسامة استهزاء شفتيه، تجمدت فوقهما ، أبصر وسط استهزائه جسمه يرتجف من البرودة ، وصوت يصل إلى مسامعه، متقطعا ،خافتا ، لاهثا ..
ـــ الجو فظيع! الجسر لا يمكن أن يصمد إزاء هذه الشدة من المطر .
شعر بالخوف، كما في كل مرة تحسس جيبه يتفقد السكين
نظر بعيدا ظهرت له المرأة تسير وهي تجر قدمها.