قراءتي حول المجموعة
القصصية ( نقطة وصول ) لزكريا صبح ــ بقلمي
ـــــــــــــــــــــــــــ
تدور أحداث المجموعة القصصية كلها حول بطل محوري وهو سائق التاكسي والذي هو ليس سوى الكاتب نفسه في جميع القصص في المجموعة ، وذلك باعترافه غير ما مرة في القصص التي تم سردها من طرف سائق التاكسي ، وخاصة في القصة القصيرة تحت عنوان : ــ ( يوميات كريم ) مبينا اختلاف تعامل الناس أو شخوص قصصه للكاتب القاص من معاملة عادية لسائق تاكسي إلى معاملة راقية ومحترمة لشخص السائق بصفته ككاتب ومؤلف .
ونجد من جهة أخرى أن مواضيع جميع قصص المجموعة تتعلق بالوجود والألم الإنساني وعبثيته التي تتجلى من خلال اللوحات التي قدمها الأديب القاص من خلال حوار فلسفي ينتابه التوتر ويسوده الاضطراب ، سواء كان حوارا داخليا أو خارجيا ويبدو ذلك واضحا مما يلي :
تتكون الحبكة من مشاعر السائق بالغربة ، والتيه في مدار لا نهاية له عبر الرحلات التي يقدمها لزبائنه ولنفسه أيضا وكأن في تلك الرحلات نجاة له من واقع جامد ، مدمر لنفسيته ، وليس له بديلا عنها للخلاص من الفراغ الوجودي الذي يعاني منه وخوفه من المجهول والمستقبل .
نجده مثلا في( قصة صالة وصول )لا يعرف ما سيحدث به عميله ، الذي طلب منه أن يتقمص دور قريب له لأن لا عائلة له مما جعل السائق يقع في حيرة من أمره أمام ما ينتظره من غرابة الموقف الذي وضع فيه وهو متأكد أنه حتما سيفشل للقيام بتلك المهمة ، لكن الكاتب زكريا صبح بسرعة فائقة تنقلب معه الأحوال إلى نهاية لم تكن متوقعة من طرف القارئ مهما كان مستبصرا وذكيا ، ففي دهشة كبيرة من طرف الجمهور ومن طرف بطل القصة والشخص المنتظر يخرجان من صالة الوصول وهما يمسحان دموعا فرت من عينيهما بعد ما حصل معهما في حضن غير متوقع ومليء بمشاعر رقيقة .
وهكذا يستمر الكاتب في سرده القصصي على هذا المنوال مستفزا القارئ وهو يأخذه في منعطفات مليئة بالترقب والدهشة ليصل إلى خواتم لم تكن في الحسبان أمام مجموعة من الأحاسيس التي أثارتها حبكته في نفس القارئ .
أما عن شخصيا ت المجموعة القصصية فهي تمثل بالنسبة للكاتب مبعثا للشعور بالاغتراب بصورة متوالية في ألب قصص المجموعة وهو اغتراب يحاول الكاتب الانفلات من بين فكيه مرة بمحاولاته الاندماج مع الركاب وتجاذب أطراف الحديث ومناقشة القضايا ،الشيء الذي يجعل من سيارته منزلا متحركا ومن ركابها أسرة متآلفة وهو ما نجده في قصة ( يوميات كريم ) وهو يطمئن نفسه أنه ليس بالسائق العادي بل كاتب ولديه كتاب أصدره بل أك'ر من ذلك ، يتخيل حفل توقيع فاخر وجميل توثق له هواتف حشد ممن تجمهروا واصطفوا في طابور توثق ما يحصل معه أمام ارتباك وفرحة كبيرة للكاتب السائق وقد عبر عن ذلك أنه ( أغلى ثمن تقاضاه عن رحلة ما ).
بينما في قصة الصمت يختلف الأمر مع الكاتب الي لم يتمكن من اختراق صمت الركاب وكذلك ما حدث له عندما تاه في مول تجاري فخم لا قبل له بمعروضاته ويفسر لنا كل تلك الظواهر التي تسيطر على شخصياته وعليه أيضا من خلال الاحتكاك بهم في قصة يوميات كريم في فلسفة القيادة وما تكتسيه مهنته من أحاسيس قلق وتلاشي واستبداد وكأنه عبد لا يملك من أمره شيئا أمام طلب التوجه إلى مكان معين وكذلك الأوامر الصادرة عن الركاب والتي لا يملك إلا الخضوع لها في ألم وتساؤلات عن تصرفات الشخصيات وخيالات تمسك بدماغ السائق في بداية كل رحلة، (فالرحلة مثل الحياة لا تعرف كيف ستسير بك ، سعيدة أم شقية ؟ )ــ على حد قوله ــ لكنه كسائق لديه روحا قلقة سرعان ما يستنكف عن كل ذلك أمام ما يلاقيه من ويتمنى لو أن رحلته القادمة تكون إلى خارج الكوكب الأرضي أو ذهاب بلا عودة ..
كل هذه الأفكار والتساؤلات اللانهائية تضع القارئ في حالة تأمل فلسفي مند أول قصة إلى آخر قصة وتسلسها السردي الذي يبين معاناة الشخصية الرئيسية المحورية في كل هذه الرحلات فيظهر لنا صراعا بين الرغبة في الموت كشخصية منكوبة تسعى للخلاص وبالتالي إنهاء من كل ما يعترض السائق الذي هو ليس إلا الكاتب نفسه من حيرة وتشوش داخلي مما قد يحيلنا في هذه القراءة أن نستنتج أن الموضوع الرئيسي هو التساؤل الوجودي وقد جعل من السائق كاتبا والعكس صحيح بمعنى أن الكاتب يعتبر سائقا في هذه الحياة كما هو الشأن بالنسبة للكاتب الأديب خاصة لما يتنصل من مهمته كسائق ويتفرج على الكون من أعلى شرفته أو من خلال قراءته لغة العيون على مرآة المنتصف أو عندما يسير السائق ، هو والموت جنبا إلى جنب كما في قصة ( مريض ) في معاناة شديدة تكبدها السائق القلق المرهف الشعور وهو لا يكاد يرى أمامه الطريق وقد غابت عن ذهنه اتجاهاتها لهول الموقف ولدهشتنا وسخرية الظروف عندما يصل مع الراكبة التي زلزل صراخها ثيابه من خوفها على صغيرها الذي يحتاج إلى إسعاف عاجل ، وهكذا يضعك بحنكة الكاتب المتمرس المتمكن من أدواته وكأنه ذلك السائق الماهر الذي ينعطف بك في دورة تنقطع لها أنفاسك كقارئ ليخبرك بكل تلقائية أن الصغير لم يكن سوى كلب السيدة الصغير بعد أن يبدي لك مشاهد متعددة متلوية تأخذ اللب .
وهذا ما يجعلك في شوق لمعرفة نهاية كل قصة من المجموعة في بحث مستمر ودعوة للتفكير في دور الوعي والمعاناة في حياة الإنسان وأن كيفية البحث عن الخلاص قد يكون مجرد حلقة من دائرة لا تنتهي من الآلام والأوجاع القاسية .
ولا ننسى أن الحوار بين الشخصيات يؤكد نظرة السخرية من الأمل في تغيير الأوضاع لدى الكاتب وأن كل المحاولات التي أوردها في كل القصص تبوء بالفشل استدلالا منه على عبثية الحياة وعدميتها خاصة في قصة (الأمانة ) وقصة ( تائهان ) وقصة ( حياة جافة ) وكذلك في قصة (المخالفة )ويستولي الملل والضجر والقلق على السائق فيفرط في التاكسي ليصبح من ملاك السيارات في قصة ( لعنة التاكسي ) والإحساس بالذنب وشبح العقوق ( كل صور العقوق تتراقص أمام عيني ) في قصة ( النوافذ المغلقة ). ولا ينسى الكاتب في قصة (كاميرا )أن يتعرض لسلوك السائقين الآخرين وما يتعرضون له على يد الشرطة في صور جميلة مليئة بخبايا ما تقترفه البشرية من إيذاء في حق نفسها وفي حق الغير .
يتبين للقارئ أن الكاتب من خلال سرده القصصي ذلك يمثل دور المرشد للسائرين في طريق الخلاص من مشاعر القلق المزمن أنه لا جدوى من السير على ذلك الطريق ولا نفاذ منه ,
أما من ناحية اللغة والأسلوب فإننا لغة مباشرة وقوية تعكس عواطف ومشاعر السائق و لا تتسم بالتعقيد لكن الكاتب يأخذك في بساتينه الرائقة من خلالها إلى التأمل الفلسفي والتعمق في ذلك عبر الصور والمظاهر التي وصفها بدقة وبلاغة بأسلوب متين لا يتبع نسقا خطيا بل تتداخل فيه الحوارات الداخلية والخارجية بشكل منمق بعيدا عن استعمال الرمزية المفرطة .
في النهاية ، كان بودي أن أتعرض بالتحليل لكل قصة على حدة ـــ الشيء الذي لا مجال له في هذه القراءة العامة ــــ كون كل واحدة منها في هذه المجموعة عبارة عن منجم يتلألأ بجواهر الأدب كونها كل منها على حدة تطرح أسئلة فلسفية حول الوجود والكائنات الي تؤثته وحول جدوى الحياة وحول الموت أيضا .