إنه اليوم الحاسم!
هذا اليوم وحده يقرر مصيره، و مصير شباب ينتظر الحصول على الشهادة التي ستمكنه من ولوج باب الحياة الحقيقية، هذا اليوم المشحون بمشاعر متعددة، مكهربة، مترصدة، إنه اليوم الذي سهر من أجله طوال السنة، هذا اليوم سيحدد معالم حياته و مستقبله.
خطا بعض الخطوات، و كأنه يستعد فعلا إلى ولوج الحياة الجديدة التي انتظرته.
توقف فجأة، اتكأ على عمود النور، و سرح بفكره، تناهى إلى سمعه صوت والدته الحنون المشجع:
يجب أن تنجح يا محمد، فأنت أملي الوحيد، و من أجلك تحملت كل المتاعب، عملت في البيوت، خادمة، من أجلك و أجل إخوتك عرفت كل أنواع القهر و الشقاء و أنا في ريعان الشباب، من أجلك! من أجلك!
حاول أن يعاود الخطى قتلا للوقت، لكنه لم يستطع أن يتحرك قيد أنملة، (إذا رسبت؟ إذا رسبت؟)
أغلق عينيه و قد سرى ألم هذه الفكرة عبر أوصاله، أحس ببعض الارتجاف.
تمنى ألا يفتح عينيه أبدا، حتى لا يشعر بمرور الوقت، و حتى لا يشاركه أحد المارة أحاسيسه، حتى لا يقرأها من خلال نظرات عينيه التائهة.
و يغلفه اليأس، يعصر قلبه:
(إذا رسب لن يخرج حبهما إلى الوجود بل سيظل أسيرا بين ضلوعهما، سيبقى طيرا مقصوص الجناح داخل صدريهما جريحا يئن من فرط العذاب و التعاسة، حبهما لي يستطيع أن يسير مزهوا، مختالا بين الناس، بل سيظل مقعدا، يزحف عبر شرايينه، مختبئا في أركان عقله.
حاول أن يبعد عنه هذه الأفكار، يجب ألا يراها اليوم، حاول أن يتحكم في حبال الأفكار التي تصله بها، لم يستطع فهي أكبر و أعظم من أن يقدر على استجماعها، ورآها أما عينيه، و وجهها إليه، لا يحيد عنه، و عيناها تصبان من أشعتهما حواليه، يضيع في نورهما، يسافر عبر مسافة الأشعة النائية.
فقد كل إحساس بالزمن، حاول الرفض، حاول أن يوقف تيار شعوره بها، حاول أن يفتح عينيه هروبا من أحاسيسه المتدفقة، لم يستطع.
ـ محمد! ألا تسمع؟ ماذا تفعل هنا متكئا على هذا العمود، أتحلم بالنجاح؟؟
ـ ماذا تريد؟ اتركني و شأني.
ـ أتخاف الرسوب هيا بنا، لقد ظهرت نتائج الامتحان!
قبض على قلبه بيد من حديد و هو يتبع زميله.
نظرا إلى لوائح نتائج الامتحانات الأخير المثبتة على زجاج نوافذ المدرج بالكلية، فلم ير شيئا.
كانت هناك حروف كثيرة سوداء تختلط ببعضها على الصفحات البيضاء اللامعة تحت أشعة الشمس الساطعة، دعك عينيه و داخلته مشاعر متعدد من هلع، و حيرة و ترقب، و قال لزميله:
ـ اللعنة، إني لا أستطيع أن أرى شيئا تحت أشعة هذه الشمس المحرقة.
لكن زميله لم يعره انتباها، بل تقدم خطوتين وسط جموع الطلبة المحتشدين أمام نوافذ المدرج و فجأة صاح به:
ـ إنه اسمك، لقد نجحت! نجحت يا محمد،. انتظر ، أنا أيضا قد نجحت.!
أحس بنوع غامض من الفرح يهز صدره، لكنه لم يجب، بل ابتعد عدة خطوات، و اتكأ على الجدار (إنه لا يستطيع أن يميز بين كل ما يعتريه الآن من أحاسيس تلجم لسانه.
( إنه لا يستطيع أيضا أن يعتبر هذا اليوم يوما حاسما، و لا بمثابة يوم ميلاده كما قال صديقه قبل قليل.)
( لماذا يولد من جديد إذا كان سينخرط في شعبة البطالة و الانتظار.)
( لماذا يولد من جديد إذا كان من المفروض أن تحط به الرحال على كراسي المقاهي التي تملأ الأرصفة.)
( أهذا هو المستقبل الزاهر الذي كان يحلم به، قصور على الرمال تساقطت أجزاؤها بمجرد نجاحه.)
( و أسرته الفقيرة التي انتظرت، و صبرت، و ساعدته بكل ما تملك ماديا و معنويا.)
( و أمه المسكينة التي كانت تسهر إلى جانه، تدفعه إلى العمل بلك ما تعرف من كلمات تحتوي على الحنان و الأمل الذي يوصل إلى الهدف المنشود، و العمل المتواصل الذي سيجعله يحتل منصبا عاليا.)
و رآها مقبلة من بعيد.
لم يتحرك للقائها كعادته، بل ظل متكئا على الجدار، و هو يحس أن سيتهاوى و ينهار إن تحرك من مكانه، يشعر أن قدميه لا تقويان على حمله،
هاهي سعاد تقترب منه و على محياها ارتسمت علامات القلق و الدهشة، هاته التي وعدها وعودا كثيرة و متنوعة،
هاته التي اتفق معها على أن يبنيا حياتهما معا كل شيء يتحطم. ينتهي اليوم. !
كل الليالي التي
سهرها، كل السنوات الفارطة ببرها القارس و قيضها القاسي، و كل تعبه من أجل توفير لقمة عيشه التي تمكنه من الاستمرار، كل الأحلام و الأماني، كل شيء.
و صوت سعاد يصل إلى سمعه متحشرجا، غريبا .
ـ محمد ـ ماذا جرى لك، هل رسبت؟ أجبني.
ـ بل نجحت يا سعاد.!
ـ لقد أفزعتني، تبدو و كأنك رسبت؟؟
ـ الأمر سيان يا سعاد!
ـ ماذا تقول، لم أعهدك متشائما إلى هذا الحد.
ـ كفى ـ لا أريد أن أتحدث في هذا الموضوع.
( تقول إنه متشائم، ترى ماذا ستقول إذا أطلعها على أن كل شيء بينهما قد انتهى، فهو لن يتمكن من تنفيذ رغبتهما في الزواج إلا بعد أو أربع أو ست سنوات على أقل تقدير و في حالة ما إذا عثر على عمل خلال السنوات المقبلة، و هي لي ترضى بذلك، لن تنتظر، كما أنها لن تقبل الفراق و وضع حد لكل ما بينهما.)
طافت بذهنه كل تلك الأفكار و هو ينظر إليها، و فجأة:
ـ إلى اللقاء ـ يا سعادـ سأذهب لأرتاح قليلا.
ـ لماذا أتكون قد غيرت رأيك في اصطحابي في نزهة حين نجاحك.؟ أو أنك أصبحت في غنى عن رفقتي .
_ ( ماذا تقولين، و كيف يمكن أن أفسر لك كل ما يتعامل في نفسي من مشاعر متضاربة.)
ـ لم أغير رأيي، سأتصل بك فيما بعد؟
داخل غرفته
ترك الماء المندفع من الصنبور المثبت في أحد أركان الحجرة ينصب على رأسه بعنف، لعل الثورة التي تغلي داخل جمجمته تهدأ شيئا ما، لعل الأفكار الكثيرة المتأججة داخل ذهنه تتوقف، فلا تجعله يشعر بهذه الحمى التي تسري في عظامه.
و حينما أصبح داخل سريره، كان يلصق الغطاء بصفحة وجهه حتى لا يرى أي أثر للنور الذي يندفع من خلال ستائر النافدة.
ـ ماذا سيفعل الآن؟؟
لم يكن يظن يوما أنه سيصاب بمثل هذا الضعف لم يتصور أنه سيقف مكتوف الأيدي، لا حول و لا قوة له لم يكن يظن أن هذه القوى الزاخر بها نفسه لن تهديه إلى الصواب، لكن ما هو الصواب؟ و ليس له حق الاختيار؟ بل ليس هناك مسالك يختار بينها، بل هو طريق واحد، و هو البطالة و الانتظار.
و لم يستطع أن يتحمل الانتظار أكثر من ذلك.
قفز من سريره،. يجب أن تقوده قدماه إلى هناك .. هناك لن يحس بالوقت، و لا بالنجاح أو الفشل الذي يشعر بأي شيء، حتى نفسه فإنها تضيع منه، تنسلخ عنه.
وقف على باب الغرفة، جال بنظره على الحاضرين الذين غلفهم ضباب كثيف من دخان السجائر.
و وصلت إلى أذنه الرنات غير المتناسقة التي تعودها المنبعثة من كمان سيدة النشوة المتربعة على عرش القلوب في تلك الغرفة، على حين تأتي ترنيماتها لتحدت نغمات و تمتمات تتناقض أحيانا و تتفق حينا لتساعد الكأس أن يفعل فعلته على أحسن الوجوه....و خطا خطوة إلى الأمام، لقد نجحت . !
الإطار واضح و مكتمل، و يجب أن أنسى أنني قد نجحت . انتبهت حادة له، تلاقت نظراتهما مختلطة بالألم و الحزن و التعاسة، مغلفة ببقايا شعاع ضئيل لا يتمكن المرء معه أن يرى الأشياء بوضوح أمامه.
بلغت ضحكتها الخليعة مسمعه و صوتها و ابتسامتها اللذان توزعهما دون حساب و هي تقول:
ـ أهلا محمد، غبت عنا كثيرا.
أين كنت؟.
سرى الاشمئزاز في دمه، داخل عروقه، لم يستطع أن يتكلم، لماذا نجح؟ و هل حياة مثل هذه تستحق أن يتعب في التفكير من أجل تغييرها.
لكنه مع ذلك، استمر، خطا خطوتين، صوتها البغيض نداؤها الرخيص، جعله ينحدر، ينحني يجلس إلى جانبها و اطمأنت، لقد نجحت.
فهي تعرف البداية، و تطمئن للنهاية.
لكنه تساءل، (من أنا الآن. ! و ما معنى النجاح؟)
و هذا الهول الهائل من الاكتساح الكبير لشتى المشاعر المنبعثة من النجاح، تنتشر في خلايا جسمه، تمتد مع يد حادة بالكأس إلى فمه، لتسكب في فمه النجاح! و هي تقول بصوت خشن:
ـ اشرب؟!.
قهقه أحس بالحرج، لكنه قهقه مرة أخرى، كيف يرضى و هل الرضى، فشل أو نجاح؟
قهقه مرة ثانية، و استدار ناحية حادة، لمس خصلة من خصلات شعرها نظر إليها، و كأنه يراها لأول مرة، ابتسم لها ابتسامة قتيلة.
( أبعد اطمئنانك على الماضي القريب، و خروجك منه منتظرا تفاجئ بالمستقبل.)
و الذات كلها تتمزق، تستعد لمواجهة بينك و بينه محكوم عليها مسبقا بالفشل.)
و يد حادة البيضاء تتقن عملها بجدية و رشاقة، و تصب الكأس تلو الأخرى، و كالدبيب الراعش، و كالتخدير الربري، كالدمعة الوحيدة، و لا تجد غير كتفها، ملجأ تلقي عليه رأسك المثقل بالنجاح، و أنت و الأحزان الكبيرة المخيفة في أدران قفصك الصدري و الواقع المر، و الماضي و عيني أمك تنظران إليك نظرتهما الأبدية المشبعة بالتعب من أجلك بالشقاء و الكد.
تحتج عليك، و حادة تضع رأسك المثقل بكل هذه الهموم على وسادة و تتركك لبطولتك الوهمية إلى غيرك، ووجه سعاد البريء يتراءى لك بين الفينة و الأخرى، تبعد صورته عن عينيك بالنظر إلى وجه حادة، إلى وشمها الأخضر بين الحاجبين إلى ساعدها الغض، و تتمنى، تحلم بموعدك معه، و مع الرغبة الوقادة و النشوة المتدفقة.