"
مصر آه وآه....يا موستافا يا موستافا انا باهيبيك يا موستافا
"
حقيقة، ان الواحد خارج وطنه يشعر بعد وقت ليس طويلا بحنين شديد لبلاده، نعم تلك التي لفظته وعذبته مهما كانت المغريات و يشعر ببهجة كبيرة عند إحساسه بقرب العودة لبيته ووطنه مهما كان الإغواء قويا ومُهِمّا مثل التقدم،النظافة الشديدة التي تشعرك بالارتباك وأنت تتجول في الشوارع باحثا عن ورقة ملقاة تشعرك بألفة المشي في شوارع وطنك الفقيرة البسيطة،أو امرأة فقيرة تبيع"المناديل الورقية"، أو طفل له عينان سوداوان بهما جرأة رجل يقترب من زجاج نافذة سيارتك ويهتف "فل يا بيه..وحياة الست اللي قاعدة جنبك..يا رب تتجوزوا !" تبقى واقعا بين شقي رحا، ميلك الفطري للنظافة والتقدم والأريحية في كل ما تتعامل معه ومعه ايضا هذا الجفاء الذي يصدك في كل مكان، فكل الأماكن باردة، وكل العيون تنكرك مهما ادعت صداقتك ومهما طال بك المقام. تبقى واقفا بين جبلين ثقيلين هما رغبتك في المضي قدما في هذا العالم المتقدم طلبا للنجاح أو العلم أو المال ووراء ظهرك الحب والدفء والأهل والعيون السود والعسلية، أيهما أهم؟ الحب والبيت والأهل والدفا ؟ أم العلم والمستقبل والمال، عليك الاختيار وهو اختيار صعب وشاق فكأن عقلك هنا وقلبك هناك فتعيش العمر مشتتا، إذا كنت شابا فسوف تميل للمال والفرص الذهبية فإذا ما تقدمت بالعمر شعرت بحنين جارف لقهوة بلدي في الحي الذي درجت فيه، تشرب فيها الشاي بالنعناع مع صديق عمر أو جلسة هادئة في بلكونة منزل تشاركك فيه الحياة سيدة مصرية تشبهك، تفهم نكاتك وتستجيب لإيماءاتك وتعجب مثلك بأغان مصرية لها ذكرى، قد تتزوج سيدة شقراء تحدثك بلغة غريبة، قد تحبك، لكنها لن تفهم مشاعرك ولن تشاركك ذكرياتك واغانيك المفضلة، ستهفو لحضن أم أو اخت أو أب، ستشعر بالرعب أن تموت بعيدا عن تراب وطنك وان تدفن في غير ثراه وسط أبويك... يقول جابرييل جارثيا ماركيز في روايته العظيمة مئة عام من العزلة "لا يشعر الإنسان بالانتماء لوطن لا موتى له تحت ترابه".ستسعد كثيرا بالصباحات الهادئة والجو النظيف البارد، لكنك ستهفو لرائحة الشاي باللبن وساندويتش جبنة من يد والدك او والدتك، او السحلب حين تعده أمك ليلا ورائحة محشي ورق العنب والكوسة والبط والعدس، والمسقعة، كل هذا لا يقارن بالنسكافيه البارد مهما كان ساخنا والكرواسون الغارق في الزبد لكنه يثير الغثيان بعد ان تنتهي منه. ستضجر من الخضار السوتيه والفراخ التي بلا طعم كأنها عاشت على الماء فقط وقتلت شر قتلة مهما اقسموا أنها حلال "هلال" بفتح الهاء..!حين يسألونك في كل مكان من اين فتقول بزهو "مصر" ..ستشعر بفرح وغصة ما غير مفهومة.كنت امشي في شارع أوروبي شهير وجدت "شحاذا" ما إن اقتربت منه حتى نظر لي بنصف عين من وسط أسماله الثقيلة وانطلق مغنيا"يا موستافا يا موستافا أنا باهيبيك يا موستافا" ضحكت ملء قلبي وعيني لأنه فهم من مظهري أني مصرية، واضح أنه شحاذ له نظرة ثاقبة وخبرة بزبائنه. لو صادفته..هذا الشحاذ بالتأكيد ستدعو بالخير لهذا الذي علمه الأغنية المصرية الصميمة وتضع له بضع عملات فضية تحية لتلك الأغنية التي أخذتك بعيدا لما وراء البحار حيث طفولتك السعيدة...ستحملك الاغنية وتجلسك إلى "الكنبة المفضلة لديك" مثلما كانت تفعل جدتك وأمك..وفجأة "يشتغل" في رأسك الفيلم العربي الأبيض والأسود وأنت بعد طفل قدماك لا تصل للأرض..تنتظر الطعام الذي تعده جدتك أو أمك "فراخ بلدي ورز وشوربة او كبدة ورز وملوخية".. سوف تسرع بعدها السير وأنت تمسح عينيك و أنفك بمنديل متمتما لنفسك انه البرد وليست الغربة هي التي أسالت عيني وأنفي..تبا لهذا البرد... أنت لا تبكي نفسك، بل تبكيها ثم تبتسم لذكرى الشحاذ الذي مازال صوته يترامى لأذنيك صادحا "ياموستافا يا موستافا"