كان قلبه مستمرا فى الخفقان يستجمع أنفاسه ..ليدعو الله أن تمر هذه اللحظات على فيض لطف الكريم فتأخذ من رحمته وترتشف من لطفه وكرمه ...كان ينتظر فى الردهة الخارجية تلك اللحظة الفاصلة بين الزواج و الأبوة ...كان ينتظر هذا اليوم على أحر من الجمر ذلك الحلم الملائكى الذى يزحف على أربع ثم يصير قرة عين تمشى على قدمين بضتين لا ينقص له إلا جناحان صغيران ليكون ملاكا طفوليا ...لم يستطع أن يمنع نفسه من إقتحام غرفة العمليات ليرى بأم عينيه تلك اللحظة التاريخية بنفسه ..نظر الجميع إليه لم يستوقفه ...إعتذر خجلا قائلا : عذرا يا دكتورة أنا لا أستطيع منع نفسى من رؤية طفلى الأول سامحينى من فضلك ...نظرت طبيبة الإنجاب إلى طبيب التخدير ثم نظرت إليه بابتسامة خفيفة قائلة : أنا عارفة يا دكتور شعور أى أب لأول مرة بيبقى عامل إزاى معلش سيبه يشوف العملية .... كانت إيماءة الموافقة ...هى إذن اللحظة ومتعة الحقيقة و نزهة الخاطر ..وما هى إلا دقائق ..حتى خرجت إلى الوجود ...باكية صارخة معلنة وجودها بقوة فى عالم الأحياء ...من فضلك إنتظر فى الخارج
خرج ثم دقائق قليلة حتى خرجت قطعة من شهب السماء أو قل مسحة من قمر المساء محمولة على ذراعى الممرضة ...دقائق أخرى تفتح عينيها الجميلتين ....ليكون أول من يرى قطعة من قلبه ملفوفة فى قطعة من الحرير ...يحملها بلطف ورقة ..يقبلها ثم يضع فى فمها الصغير قطعة من التمر الممضوغ من فمه لتكون أول ما يدخل فمها الجميل كسنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ثم يؤذن فى أذنها اليمنى ويقيم الصلاة فى الأخرى ليعلن أمام الله أن نسمة جديدة كتبت فى سجل المسلمين قد أتت للحياة ...ترتسم إبتسامة الراحة على أمها وهى تراها فى حضن أبيها ...حمدا لله على سلامتك ...لقد جاءت أحلى إنسانة فى الدنيا من أحلى زوجة .......تمر الأيام سراعا تصير مع الوقت مدللة العائلة ...لا يخرج خارج إلا ويأخذها معه فى رحلة أو نزهة أو حتى مغازلة ,,,فالبنات جبلت طبائعهن على حب الأطفال ...كان يحملها على كتفيه ويمر فى الأحياء القديمة التى عاش فيها صبيا ...يلوح له أحد كبار السن ..قائلا : والله يا أبو حميد أبوك الله يرحمه كان بيشيلك كده بالضبط ..ضحك ....وقهقهة ...نعم نعم الله يرحمه ..ثم يبتعد عن الأنظار مخفيا نظرة الإنسان اليتيم متذكرا والده الذى أحبه أكثر من أى شئ لا لأنه والده ولكن لأنه لم يكن أبا لقد كان أما رؤوما ,,,كان نعم الأب الشفوق ..وكان يحتل مكانة خاصة عنده لأنه إبنه الأكبر وباكورة الأبناء ..حمل طفلته الصغيرة على كتفه وأخذ يربت على كتفيها بلطف فما كان منها إلا أن أخذت تربت هى الأخرى على كتفى أبيها فنظر إليها وابتسم وأغرق فى الضحك ...ثم توقف عن الضحك لتغزو دمعة صغيرة أفق عينيه متذكرا نفس الموقف مع والده كان هو المحمول على كتف أبيه أما الآن فقد صار هو الحامل وهكذا هى الحياة تمر ولا تأخذ منا أحلى اللحظات بل نتذكرها دائما بمزيد من الشغف مئات المرات ونتذكر أحبائنا بمزيد من الحب ...رحمك الله يا أبى كنت أجل الآباء كنت صافى النفس ...موفور الكرم ...سمح الفؤاد ...لا تنام إلا وأنت متناسى لمن أساء إليك تعلمت منك البساطة والتواضع ,,تعلمت منك العطف على الناس ...تعلمت منك ما لم أتعلمه من كتبى طوال حياتى ...كنت نبراسى وزادى و مؤونتى فى جبل الحياة الوعر فلما فقدتك فقدت كل شئ ......تدحرجت دمعتان على خديه ...فوجد من يمسح دموعه بلطف ورقة فنظر ليشكر ...فوجد قرة عينيه هى من تمسح دموعه ...وتقول له معلش يا بابا ...فاحتضنها بهدوء وضمها إلى صدره رافعا يديه بالشكر والحمد والدعاء لمولاه خاتما حديث السماء بدعاء الرحمة على والده..........