إنّ تأصّل الشعور الإيماني ضمن قابليات الروح الإنسانيّة يعد بديهة محققة منذ لحظة البدء وإن كانت فكرة الإله لمّا تتشكّل في ذهن الإنسان الأول بعد، إلّا أنّ
" إحساسه بحضور بعدٍ آخر للوجود يتخلل عالمنا ويفارقه في الآن نفسه"([1]) شكّل المحفّز الأول لبوادر الكشف البدئي عن مكمن تلك القوة اللامرئيّة.
لعلنا نقف عند أبرز الشارات المرئية التي شهدتها العصور الباليوليتية، وتقلدت دور الوسيط الوجودي بين النسبي والمطلق، ومنها شارة }رأس الدب{ الذي يرمز إلى القوة الكونية الرابطة بين عالمي الناسوت واللاهوت، وقد تم اختيار رأس الدب تحديداً لأنّ الإنسان النياندرتال Neanderthal قد " رأى في الدب نموذجاً أعلى للقوّة في المسرح الطبيعي الذي يعيشه، وهو أصلح ما يكون لتمثيل القوة الشمولية الغُفلة السّارية في الكون."([2])
إلا أنّه مع نضوج بوادر الفكرة المقدّسة اكتسب الشّعور الديني بعداً فلسفياً في رضوخه المتساوق مع حاجته لوجود آلهةٍ مشخّصة تملأ الرّغبة في الحضور المؤلّه، وتحل مكان السّحر التعاطفي([3]) الذي لم يعد يمتلك إمكانيات الإقناع الفكريّة في مرحلة تطوريّةٍ ما.
يرى الفيلسوف الفرنسي أندريه غريسون أن: " الأشياء كلها صادرة في نهاية المطاف عن شيءٍ لا يصدر هو نفسه عن أيّ شيء، عن كائنٍ خالدٍ واجب الوجود، أول الأشياء جميعاً، وينبغي لهذا الكائن أن يكون كائناً لا حدود لبقائه، وسعته، وقدرته.
والحقيقة من ذا الذي يقوى على تحديده؟") [4])
يضعنا هذا السّؤال الكشفي أمام تخوم الاستشرافات الملّحة على استبصار المطلق والذي ابتكر له الإنسان على امتداد كيانه العديد من القوالب، والتّسميات، والهيئات...فمن هو؟
هو الإرادة في فلسفة شوبنهاور Schopenhauer حيث تعد هذه الإرادة مصدر القوة " التي تنبت النبات، وتوجه المغناطيس إلى الجهة الشمالية، بل هي القوة التي توجد في الجاذبية ذاتها، والتي يظهر أثرها في كل مادةٍ بوضوحٍ، هي الماهية الباطنية، والقلب بالنسبة إلى كل شيءٍ جزئي، وإلى الكل أيضاً" ([5]).
وهو عند باسكالPascal الحاضر المحتجب الّذي " لا يتجلى في الطبيعة والحياة الإنسانيّة تجلياً تامّاً، كما أنّه لا يتركنا في ظلامٍ تام عن حقيقته، وما نواجهه ليس غياباً تاماً أو حضوراً ظاهراً، بل هو حضور إلهٍ محتجبٍ" ([6]).
وهو عند ديكارت Descartes الجوهر المطلق" التام الوحدة والبساطة من حيث طبيعته، والتام القدرة بما هو كامل، والحر التام الحرية أيضاً بحكم كماله"([7])
وهو عند هيراقليطس النار الأولى،" مصدر الأشياء كلها، وعنها تصدر الأشياء "([8]). وهو كذبة في حياة نيتشهNietzsche " فوحده العالم الظاهر هو الموجود، وما العالم الحقيقي إلا كذب نضيفه إليه"([9]).
وهو العقل اللامتناهي عند هيجل Hegel " الذي يشمل الأشياء المادية، والعقول المتناهية على السواء"([10]).
وهو عند دوركهايم Durkheim نتاج الشعور الجمعي لكونه" مسؤول عن ظهور المعتقدات الدينية، ويعمل على تعزيز المعتقدات وقيمتها، كما دوراً في تحديد نوع ونمط الدّين السّائد في المجتمع المعني، فوجود جماعة دينيّة تعتقد بوجود الرب العظيم، مرتبط بالتفكير بوحدة الطّواطم والقبيلة "([11]).
كل هذه الطّروحات لهيئة الآخر المطلق تؤدّي الدور نفسه في المغامرة الكشفية.
ولكن أي التصورات هي الأقرب؟
وما هي المفارقات بين تلك المفاهيم؟
وما الصفة الموحدة بين أرباب الجنس الإنسانيّ على امتداد تاريخه؟ أم لعلّها صفاتٌ متفرقةٌ لواحدٍ أوحد؟
إن هذه الملكة الإشراقية الخام تشكّل لباب التّجربة الصوفية في رصدها للحظة القصوى الأقرب للحقيقة المتفتّقة عن }وحدة الوجود{ فكان الله أو الطوطم أو أنوبيس أو الطاو أو جوبيتر أو نيرفانا أو براهمان أو موكشا وإن اختلفت التسميات إلّا أنّها تتماثل جوهريّاً في اللحظة الإشراقية ذاتها، وهي الركون إلى ذات المطلق داخلنا.
[1]‑ السواح، فراس، دين الإنسان (بحث في ماهية الدين ومنشأ الدافع الديني)، منشورات علاء الدين، دمشق، ط1، 1994، ص 152
[2] ‑ المصدر السّابق ذكره، ص153
[3] – السّابق نفسه، ص132
[4]‑ كريسون، أندريه، تيارات الفكر الفلسفي في القرون الوسطى حتى العصر الحديث، تر: نهاد رضا، منشورات عويدات، بيروت، ط1، 1962، ص 157
[5] ‑ شوبنهاور، آرثور، العالم إرادة وتمثلاً، تر: د. فؤاد زكريا، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، ط2، 1994، ص21- ص22
[6] ‑ كولينز، جيمس، الله في الفلسفة الحديثة، تر: فؤاد كامل، دار قباء للطباعة والنشر، د.ط، القاهرة، 1998، ص465
[7] ‑ لوقا، نظمي، الله أساس المعرفة والأخلاق عند ديكارت، سلسلة الإلهيات، المطبعة الفنية الحديثة، القاهرة، ط1، 2003، ص 114
[8]‑ بدوي، عبد الرحمن، ربيع الفكر اليوناني (خلاصة الفكر الأوروبي)، دار القلم، بيروت، ط5، 1979، ص139
[9] – نيتشه، فريدريك، أفول الأصنام، تر: حسن بورقية ومحمد التاجي، مطبوعات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ط1، 1996، ص27
[10] ‑ الله في الفلسفة الحديثة، ص314
[11] ‑ يتيم، عبد الله عبد الرحمن، دوركايم إميل (ملمح من حياته وفكره الأنثربولوجي)، مجلة إضافات، البحرين، العدد 25، 2014، ص37