عندما وقع كفها الرقيق بين أحضان كفي، شعرت بانتشاء أخذني إلى عالم لا وعي فيه، ضغطت على يدها كأنما أضغط على شيء بداخلي كي يهدأ ويستكين، هي أيضا انتفض شيء بداخلها فنزعت يدها من يدي سريعا، تعرق جبيني وتلعثم الكلام على شفتي، ولم أجد للكلام معنى وأنا بين يديها وإنما أردت السكوت، فالصمت في حرم وجودها عبادة، وأنا ناسك مبتدئ لا يعرف كيف الصلاة.
جلسنا على طاولة بمقعدين متواجهين، كنت شاردا في اللحظة التي نتوادع فيها فيحتضن كفي كفها ثانية، لكنها لم تفعل، ولم تفعل أبدا حتى افترقنا. أخبرتني قبل رحيلها أن ملمس يدي لا يشبه أيادي الرجال، بل ناعم كالحرير؛ لذا كانت تستحي من مصافحتي لأن يدها أكثر خشونة، وهي تريد رجلا يشعرها أنها انثى، حينها علمت أن انتفاضها أول مرة لم يكن انتفاض العاشقين، لم أضحك عندما قالت لي ذلك مثلما ضحكت يوم سمعت نفس العبارة من أختي الصغرى، كانت تبكي لأمي رافضة غسل الصحون، قالت وهي تبكي
_ إن يدي " علي" أنعم من يدي
ثم تساءلت وهي تنتحب
_ من منا الفتاة ومن منا الولد؟
لم يشغلني سؤالها وقتها ولكنه شغلني في هذا اليوم.
في أحد الأيام حاولت حمل أسطوانة الغاز والصعود بها إلى شقتنا في الطابق الخامس، قال لي أبي وقتها
_ دعها لأخيك يا دكتور علي
قال "دكتور علي" بإكبار، ظن أنني سأسعد بها، لم يكن يعلم أنه يكسرني. أخي أصغر مني بثلاثة أعوام، لكنه أقوى مني في البنيان، ذراعاه قويان ويداه خشنتان، كل شيء بيننا على النقيض، تلتف البنات حوله بينما يزهدن في الطبيب.
لم أختر دراسة الطب وإنما تمنيت دراسة الأدب، كان الجميع منذ الصغر ينادونني "الدكتور علي"؛ فهيئتي ووقاري تنبئان بمركز مرموق ينتظرني.
كنا في زيارة ألأهل في القرية، تنافست أنا وأخي وابن عم لنا على الإطاحة بصخرة بالفأس، فشلت أنا ونجح أخي، كانت ابنة عمي تراقب المشهد من بعيد، فتاة جميلة لم ألحظ جمالها إلا آنذاك، دق قلبي لها ودق قلبها للقوي فينا، ذو السواعد الفتية، ضحك اخي عندما أخبرته أنها تعجبني، قال كأنما يوبخني
_أنت طبيب، اجعل طموحك أعلى من ذلك.
قلت في نفسي وهل الحب يرتبط بالمراكز!
في إحدى الإجازات الصيفية قررت العمل في العاصمة مثلما يفعل أخي، يدرس بالجامعة ويعمل في فصل الصيف، يعتمد دائما عليه أبي في كل شئون البيت الخارجية، أما أنا فأدرس وأشاهد التلفاز.. وأكتب الشعر في الخفاء، قال لي صديق طفولة لم يفلح في الدراسة وعمل في إحدى شركات المقاولات عاملا
_إن الله خلق من عباده أناسا للعلم فرفعهم به، وخلق آخرين للعمل والشقاء..وانت ابن عز يا دكتور، لماذا تتمنى الشقاء.
سافرت رغما عن أبي إلى العاصمة برفقة صديقي العامل، كان العمل شاقا في اليوم الأول لكنني عاندت، في اليوم التالي فكرت أن أعود، في اليوم الثالث بكيت من القهر، تركت العمل وبحثت عن آخر فلم أجد، لم أخبر صديقي أنني لا أجد عملا ولكن كنت أخرج في الصباح ولا أعود إلا آخر اليوم، آخر جنيه في جيبي اشتريت به رغيفا أكلته بدون غمس، أريد الرجوع ولا أملك ما يعينني عليه، اوقفني شحاذ يطلب إحسان، تمنيت لو نزع الله مني عزة نفسي فأمد يدي مثله، رفعت رأسي إلى السماء وطلبت من الله الا يذلني، هبّت نسمة قوية حملت بعض تراب الأرض، أغمضت عيني وخفضت رأسي متفاديا لها، استقر بصري على عملة ورقية كانت بين رجليّ، ساقها الله لي من حيث لا أدري، كدت أبكي من شدة الفرح وأنا ألتقطها وأدسها في جيبي، رفعت رأسي إلى السماء ممتنا وانطلقت، سرت ثلاثة أميال حتى وصلت إلى موقف السيارات، السيارة الأخيرة تريد راكبا واحدا، أجلسني السائق بجواره، نادى بصوت عال
_ الأجرة قبل الإقلاع يا حضرات.
أخرج كل واحد عشرين جنيها وناوله إياها، أخرجت ما في جيبي ومددت له به يدي دون أن أنظر إليه، كنت منهكا وجائعا، قال الرجل بتعجب
_إيه ده يا أستاذ
اعتدلت في جلستي ونظرت نحوه وقلت بإعياء
_ الأجرة
نقل الرجل بصره بين وجهي ويدي ثم تناولها مني ووضعها أسفل صندوق أمامه
سألني بود
_ أنت جائع؟
قلت بارتباك
_ لا.. انا فقط أريد أن أنام
قال
_ شكلك ابن عز ومش واخد ع البهدلة
لم أرد وشردت بعيدا تائها في جملة "ابن عز" ابتسمت رغما عني، للمرة الأولى ترضيني هذه الكلمة.
تذكرت قول صديقي" أنت خلقت للعلم"
نمت قرير العين حتى وصلنا، فتحت عيني على يد السائق تدفعني برفق لأستيقظ، حانت مني التفاتة نحو الصندوق، كانت الورقة التي تحته بيضاء، مددت يدي بتردد وسحبتها، نظرتي الذاهلة أكدت للسائق أمرا فقال باسما:
_ كنت تراها عملة نقدية
أومأت مؤكدا كلامه وأنا ما زلت ذاهلا.