لم أحزن يومًا على ما كان لي وضاع مني، فالحزن لا يعيد مفقودًا، ولا يرمم ما تهدّم.
فلمَ أحزن على شيء لم يكن لي أصلًا ولم يأتني؟
تلك سنة الحياة، ما كُتب لك سيأتيك ولو بعد حين، وما لم يُكتب فلن تبلغه مهما سعيت وراءه.
علّمتني الحياة أن التعلّق الزائد بالأشياء أو الأشخاص يُفقدنا توازننا، يجعلنا سجناء بين أيدٍ لا تملك، وأقدار لا نتحكم فيها. ولذلك تعلّمت ألا أحب شيئًا أكثر مما يجب، وألا أتشبّث بما أعلم أنه قد يزول. فإن فقدتُه، لم أفقد معه ما تبقّى مني.
وقد طمأننا الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم حين قال:
"مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ"
[الحديد: 22-23]
وكأن الله يخاطب قلوبنا مباشرة: لا تأسَ على ما فاتك، ولا تغتر بما بين يديك، فكلّه مقدّر بعلمه وحكمته.
يا صديقي، إن أخطر ما يواجه الإنسان ليس الفقد في حد ذاته، بل أن يذوب مع الفقد، أن ينكسر حتى لا يجد نفسه بعد ذلك.
كم من أناسٍ رأيناهم حين خسروا شخصًا أو حلمًا أو مالًا، خسروا معه أعصابهم وأرواحهم وحتى إيمانهم بالحياة.
لم يفقدوا الشيء فقط، بل فقدوا أنفسهم معه.
لذلك وعندما أراد رسول الله ﷺ أن يربّي القلوب على هذا المعنى قال لابن عباس رضي الله عنهما:
"واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضرّوك بشيء، لم يضرّوك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفّت الصحف"
[رواه الترمذي]
فاطمئن، فما فاتك لم يكن أبدًا لك، وما كان لك فلن يأخذه أحد منك.
الحياة مدرسة لا تملّ من تكرار الدروس، لكن قليلين هم من يفهمون. فهي تعلّمنا يومًا أن الفرح مؤقت، ويومًا أن الحزن مؤقت، ويومًا أن من تظنّ أنه لك قد يرحل عنك في لحظة، دون سبب أو وداع. وهي تعلّمنا أن كثيرًا مما نتعلّق به ليس خيرًا لنا، وأن بعض ما نخشاه ونتألّم لفقده كان في الحقيقة رحمة خفيّة لم ندركها إلا بعد حين.
لذا فيا صديقي، اجعل قلبك متوازنًا بين الرجاء والرضا. احلم، واسعَ، واطلب، لكن لا تجعل سعادتك رهينة بيد أحد ولا معلّقة على شيء. أحبّ نعم، لكن بحكمة. تمنَّ نعم، لكن بعقل. اعمل نعم، لكن بوعي أن النتيجة ليست كلها بيدك.
في النهاية، ما كتبه الله لك لن يخطئك، وما لم يكتبه لك لن تدركه ولو اجتمع أهل الأرض على أن يمنحوه لك. فلا تحزن على ماضٍ لن يعود، ولا على رزق لم يُقسم لك. عش لحظتك، واسعَ لغدك، وارضَ بقلبك.
حينها فقط ستكتشف المعادلة الأصعب: أن الفقد جزء منّا، لكنه ليس كلّنا، وأننا نستطيع أن نحيا رغم كل ما فقدناه وخسرناه، ونواصل المسير بقلوب راضية مطمئنة.