لا تَحمِلْ هُمومَ الأَمْسِ إلى اليوم، ولا تأخُذْ أوجاعَ اليومِ إلى الغد؛ فالحياةُ لا تُطاقُ حين تُثقِلُها بحقائبٍ من وَجَعٍ قديمٍ وأحلامٍ مكسورة. إنَّ مَن يَعيشُ أسيرَ الماضي أو رهينَ الغد، يُضيِّعُ عُمرَه بينَ زمنينِ لا يُمكنُ أن يسكُنَ أحدُهما بين يديه.
كَمْ مِن إنسانٍ أنهَكتْه الذكرياتُ القديمة، ظلَّ يَستعيدُ المشهدَ ألفَ مرّةٍ، يُحاوِرُ مَن رَحَلوا، ويُعاتِبُ مَن لم يَعودوا، وكأنَّه يُريدُ إعادةَ كِتابةِ القَدَرِ بدموعِه! وكَمْ مِن آخَرَ نَسي أن يَعيشَ لَحظتَه، فانشغلَ بما سيكون، يَخشى المجهولَ ويُعِدُّ العُدَّةَ لحروبٍ لم تَقَعْ بعد، حتى ذَبُلَت روحُه من شِدَّةِ الانتظار!
الحياةُ يا صديقي لا تَنتظرُ أحدًا، تَمضي بخُطًى ثابتةٍ غيرَ مُكترثةٍ بمَن تخلَّف أو توقَّف أو تردَّد. نحنُ مَن نَصنعُ أوجاعَنا بأيدينا حين نُصرُّ على حَملِ ما انتهى، أو القَلَقِ ممّا لم يأتِ بعد.
تأمَّلِ العاملَ الذي يَعودُ إلى بيتِه مُتعبًا، لكنَّه يَخلعُ عن كتفيه غُبارَ اليومِ قبل أن يُعانِقَ أبناءَه؛ لو ظلَّ يَحمِلُ هُمومَ العملِ داخلَ جُدرانِ البيت، لَمَا عَرَفَ طَعمَ دِفءِ الأُسرة. وتخيَّلْ تلك الأمَّ التي فَقَدَت ابنَها، كيف استطاعت أن تُواصِلَ الحياةَ حين أدركَت أنَّ الحُزنَ إن لم يُضبَطْ سيُدمِّرُ ما تبقّى من حُبٍّ في قلبِها لبقيَّةِ أبنائِها.
نحنُ نُتعبُ أرواحَنا حين نُصرُّ على أن نَحمِلَ بضاعةَ الأَمْسِ فوقَ ظهورِنا، نَبيعُ ونَشتري مع أنفسِنا، نُحاسِبُها على ما فات، ونَخافُ من خَسارةٍ لم تَقَعْ بعد. لا نحنُ حَقَّقْنا رِبحَ الرِّضا، ولا تَجنَّبْنا خَسارةَ الطمأنينة.
العقلُ الواعي يُدرِكُ أنَّ الزمانَ لا يعود، وأنَّ ما مَضى مَضى، وأنَّ الغدَ لم يُكتَبْ بعد؛ فلا معنى لإهدارِ اليومِ بين نَدَمِ الأَمْسِ وخوفِ الغد. أعظمُ دروسِ الحياةِ أنْ تتعلَّمَ كيف تُغلِقُ بابًا دونَ أن تَلتفِت، وأنْ تَسيرَ بخِفَّةِ مَن تَحرَّرَ من قيودٍ لا تُرى، وأنْ تُؤمِنَ أنَّ الله يُدبِّرُ الأَمرَ في غيابِك كما في حضورِك.
فلا تُثقِلْ قلبَك بما لا يُحتمل، ولا تُعِدَّ الأيَّامَ كما تُعِدُّ الخسائرَ في دَفترِ تاجِرٍ خائب، بل عِشْ كلَّ يومٍ كما لو أنَّه الحياةُ بأكملِها. فما أضيقَ العيشَ حين نَحمِلُه فوقَ أكتافِنا، وما أوسعَه حين نَضعُه بينَ أيدي الله راضينَ مُطمئنّين.
وتذكَّر دائمًا: إنَّ أجملَ ما تملِكُه ليس ما تَسعَى إليه، بل ما بين يديكَ الآن. فاحفَظْه، وامنَحهُ امتِنانَك قبلَ أن يَغيبَ فلا يُدرَك. فالأمانُ لا يُوهَبُ للمُستقبَل، بل يُصنَعُ في هذه اللحظة بالرضا، وبالإيمانِ أنَّ السعادةَ لا تُؤخَّرُ إلى الغد، لأنَّ الغدَ — يا صديقي — قد لا يأتي.
أيمن موسى