كعادته اليومية استيقظ العم سالم صباحًا؛ ليتناول إفطاره قبل توجُّهه إلى عمله، تسبقه بالاستيقاظ زوجته أم فاطمة أو أم بطة كما يحلو لها أن يناديها الجيران.
أعدَّت الشاي مع قطع الخبز البلدي المحمَّص؛ لتضعه أمام العم سالم، والذي بدوره نظر إليها شذرًا وبتأفُّف قائلًا لها في ضيق:
- لقد احترق كبدي من هذا الشاي والخبز، ألَا يوجد لديكِ شيء يصلُح للإفطار غيرهما؟
ابتسمت وهي تحمد الله قائلةً في ود:
- غيرنا لا يجده يا أبو فاطمة، فالحمد لله على كل حال.
أزاح الصينية جانبًا دون أن يتناول إفطاره، وخرج وهو يُهمهم بكلمات مبهمة لم تسمعها جيدًا بعد أن دفعها جانبًا بيده، وكل علامات السخط قد ارتسمت على ملامح وجهه الغاضب.
كعادتها اليومية أخذت تدعو له أن يوسع الله في رزقه ويصلح له حاله، وأن يملأ قلبه بالقناعة، وأن يهديه سُبُل الرشاد، فبرغم شدته وقسوته الغير مبررة معها ومع بناته ومعايرته الدائمة لها بأنها لا تنجب سوى البنات إلا أنه يظل سندها الأخير بالحياة هي والبنات وربما سندها الوحيد بعد الله سبحانه وتعالى.
كان العم سالم يعيش بعقلية حقبة الستينات رغم تغير نمط الحياة بعد الألفية الثانية وتجاوزها بأكثر من عقد من الزمن، وما حدث من تحولات سياسية وإقتصادية على المستويين المحلي والعالمي كانت كفيلة بإصابة الجميع بهشاشة الفكر وضحالة الذوق العام، من ثم زوال الطبقة المتوسطة من مكونات المجتمع المصري، تلك الطبقة والتي كانت بمثابة رمانة الميزان والحد الفاصل ما بين عالمين كل منهما على النقيض من الأخر فإما فقر مدقع أو ثراء فاحش.
وصل العم سالم إلى مقر عمله، وقد استاء جدًّا عندما علِمَ أنَّ المدير قد وصل قبله، وأنه يطلبه بمكتبه فور وصوله.
كان يدرك أنه -كالعادة- سيسمع نفس الإسطوانة المعتادة عن إهماله وتأخُّره، وأنه لا يستحق عمله، وأنَّ التساهُل معه والتغاضي عن أخطائه سيفسده، رغم أنَّ توسُّله واعتذاره ومحاولة تملُّق المدير كان ينجح بالغالب، إلا أنه بداخله كان يحمل له الحقد والكراهية، وكم تمنَّى لو يزول من الوجود بأكمله، فهو يُحاسبه عن تأخُّره لدقائق مع عِلمه أنه يستقل الحافلة، والتي لا تقف حيثُ يقطن بتلك الحارة غير الممهدة بعشوائيات المقطم، والتي تسبِّب الإصابات والحوادث لمَن يسيرون عليها بأقدامهم؛ ممَّا يضطره للسير على قدميه مسافةً طويلة، بينما سيادة المدير مُخصَّص له سيارة فخمة أحدث موديل بسائق خاص ويقطن بأرقى الأحياء السكنية بالتجمع الخامس حيث الحدائق الخضراء والطرق الممهدة.
طرق الباب ودخل، وما كاد يفعل حتى تلقَّى سيلًا من السُّباب، ومديره يُهدِّده بفصله وتشريده، وأنه لن يصبر بعد الآن على إهماله وعدم جديته بالعمل.
كالعادة أخذ يدعو له ويتملَّقه حتى أشار له بالانصراف على ألَّا يتكرر تأخيره مرة أخرى.
ذهب العم سالم إلى البوفيه وهو يُهمهم بينه وبين نفسه قائلًا:
- كم أصبحت أكره هذا العمل الذي يفقدني رجولتي وهيبتي، وأنا مَن يخشاني الجميع بالبيت، فزوجتي لا تجرؤ على مناقشتي بأي أمر مهما بدا بسيطًا، بينما البنات لا يكَدن يظهرن أمامي ولا أسمع صوتهن ما دُمت بالبيت.
حدَّث نفسه في أسى: هو يوم آخر يشبه ما سبقه وما سيليه من الأيام.
أصوات الموظفين لا تكاد تتوقَّف، فهذا يريد قهوته، وذلك يريد ورقًا، وهذا يرسل ملفًا، وآخر يبحث عن دفاتر مفقودة، وكل هذا يأتي على كاهلي، بينما راتبي لا يكاد يكفي حتى منتصف الشهر.
شعوره بالحُنق والغضب يُشبه قنبلةً موقوتةً منزوعة الفتيل، ولكنها لا تنفجر غالبًا إلَّا بالبيت وعلى مَن هم تحت مسؤوليته، أو بالبسطاء ممَّن يشاركونه الشارع والسكن.
صدَق العم سالم عندما قال إنه يوم يشبه كل يوم من حيثُ العمل، ولكن ما حدث بهذا اليوم أمر استثنائي، وكان كفيلًا بأن يقلب حياته كلها رأسًا على عقب، وذلك عندما تردَّد اسمه من قِبَل ساعي البريد وهو يبحث عنه؛ ليُسلِّمه خطابًا يحمل اسمه ومسجل بعلم الوصول.
ما إن استلم العم سالم الخطاب حتى مزَّق غلافه الخارجي، وقد تملَّكه الفضول لمعرفة ماذا يوجد بداخله، فهو لم يستلم يومًا أي خطابات سوى ذلك الخطاب اليتيم، والذي تبيَّن فيما بعد أنه تشابه بالأسماء بينه وبين أحد الأشخاص.
كان العم سالم بالكاد يستطيع القراءة، فهو لم يكمل المرحلة الابتدائية؛ ليخرج لسوق العمل مثله مثل آلاف الأطفال، والذين يتركون التعليم مضطرين؛ للمساهمة بنفقات الأسرة وتحمُّل المسؤولية بوقتٍ مبكر.
فتح الخطاب على عجل، وبنظرة خاطفة وجد أنَّ الرسالة تحمل اسمه رباعيًّا مع عبارة مقتضبة تقول: رجاء الحضور للأهمية لمقر مكتب المحاماة بالعنوان أدناه.
كان الخطاب ممهورًا بتاريخ بعد الغد، ويحمل اسم محامٍ شهير كما عُلِم فيما بعد من الأستاذ رضا، والذي وضَّح للعم سالم عنوان المكتب ورقم تليفون المكتب.
شرد العم سالم وقد كاد عقله يتوقَّف من التفكير متسائلًا: تُرى ماذا يريدون منه هناك؟ هل عليه قضية قديمة أو حُكم بسجنه دون علمه؟ !
أم أنَّ زوجته أقامت عليه قضية خُلع؛ بسبب معاملته السيئة لها وللبنات؟
سُرعان ما نفض عنه ذلك الخاطر؛ فهو يعلم أنَّ زوجته طيبة وبنت ناس وأصول ولا تفعلها.
لاح له خاطر أزعجه، فربما مالك العقار يريد طرده من تلك الشقة بالدور الأرضي، والتي لا تزورها الشمس صيفًا أو شتاء، وتُشبه إلى حد كبير المقابر الفرعونية التي لم يتم اكتشافها بعد أو ربما هي أسوأ من ذلك بكثير.
تساؤلات ومخاوف عديدة كلها مصبوغة بالسواد؛ ممَّا جعله يتصبَّب عرقًا وينتفض خوفًا وهو يُردِّد: اللهم اجعله خيرًا.
وحتى يطمئن ويحصل على بعض التفسير لمَا يجهله ذهب مسرعًا للأستاذ رضا، فهو تقريبًا الموظف الوحيد الذي يُعامله معاملةً جيدةً بمقر العمل، ولا يُوجِّه له الإهانات مثل الآخرين، وما إن وصل لمكتب أستاذ رضا حتى روى له ما حدث، وعرض عليه الرسالة حتى طمأنه الأستاذ رضا، وأخذ الخطاب وهو يقرأ فحواه جيدًا، من ثم قام بالاتصال بالرقم المدوَّن بأسفل الخطاب؛ ليستفسر منهم عن سبب استدعاء العم سالم من خلال خطاب مُسجَّل بعلم الوصول.
ثوانٍ معدودة وكلمات مقتضبة أنهى بعدها الاتصال، وتوجَّه بحديثه للعم سالم قائلًا بجدية بالغة قد بدَت على ملامحه:
- الاسم والعنوان صحيحان، وهناك موعد تم تحديده لك هناك بعد الغد، ولكن دون الإفصاح عن أي تفاصيل.
لينهى عبارته بقوله: دَع الأمر لله، وتوكَّل عليه، وإن شاء الله خير.
نهض العم سالم ليكمل عمله وهو لا يكاد يرى أمامه، وقد تجمَّعت برأسه كل المخاوف والهواجس، حتى إنه لا يدري متى وكيف أنهى عمله ووصل إلى البيت.
أحضرت له زوجته الغداء، لينظر إليه، وقد كان طبقًا من الفول وبعض المخلل والبصل، تناول بعضه بصمت وشرب الشاي ودون أي كلمة دخل غرفته ونام حتى الصباح، بينما عقله ظلَّ يقظًا طوال الليل لم ينَم.
ذهب إلى العمل وتفكيره كله مُنصَبٌّ على موعد الغد، وما قد يحمله له من مفاجآت لا يدري إن كانت سارَّة أو مؤلمة.
انقضى اليوم بعد أن توسَّل للمدير بالسماح له أن يتأخَّر بالغد لساعتين؛ ليذهب لموعده المحدَّد بعد أن أخبره بالرسالة مُستشهدًا بالأستاذ رضا؛ ليؤكِّد كلامه، وبعد تملُّق المدير والدعاء له بطول الأجل وأعلى المناصب وافق المدير مُهدِّدًا إيَّاه أنه لو تأخَّر عن ساعتين سيخصم له ثلاثة أيام مُعقِّبًا على ذلك بقوله: الله أعلم أي مصيبة أقحمت نفسك فيها.
عاد العم سالم إلى البيت مهمومًا خائفًا، لا يشعر بأنَّ الأمر يُنبِئ بالخير حتى إنه نام دون أن يتناول أي طعام أو شاي كعادته اليومية.
نهض صباحًا مبكرًا ليستقل الحافلة، وبصعوبة بالغة استطاع الوصول إلى مكتب المحامي المدوَّن بالخطاب.
أكثر من ساعة كاملة قضاها بالمكتب مع المحامي، والذي كان يُوضِّح له السبب في استدعائه بهذه الطريقة، وما إن أنهى العم سالم موعده وخرج من المكتب حتى تنفَّس بعُمق وتنهَّد بهدوء وهو منتشي ومنتفخ الأوداج.
ربما لا تحتاج نظرةً ثاقبةً أو فطنةً وذكاء لتدرك أنَّ ذلك الرجل الذي خرج الآن من مكتب المحامي لم يكن هو نفس الشخص الذي دخل منذُ قليل.
كان شخصًا آخر، ملامح وجهه وتعبيراته تُوحي أنَّ هناك تغيُّرًا كبيرًا قد حدث معه للتو، حتى تلك الابتسامة -والتي تتسم بالسخرية- لم تكن لترتسم على ملامحه بهذا الشكل من قبل.. ابتسامة لا يعلم مغزاها إلا هو.
فأي صدفة وأي قدر ذلك الذي مر به العم سالم والذي حدث نفسه بسعادة بالغة وهو يقول أين كنت يا رجل لقد تأخرت علي كثيرًا، ولكن لا يهم يكفي أنك أتيت وبالوقت المناسب.
عاد إلى عمله، وما إن دلف إلى الداخل حتى تناوشته الأصوات، هذا ينادي، وذلك يطلب، وآخر يصرخ به، ولكنه -وعلى غير العادة- لم يرد على أيٍّ منهم، وكأنه لا يراهم أو يسمعهم أو بالأحرى هو يتجاهلهم.
بخطواتٍ ثابتة توجَّه إلى مكتب المدير، والذي ما إن رآه حتى أرغى وأزبد وهو يتوعَّده ويُهدِّده بالخصم والفصل.
على غير العادة أيضًا لم يتوسَّله العم سالم ولم يستجديه، ولم يدعُ له أو يتملَّقه ويرجوه، إنما جلس بهدوء على الكرسي المقابل للمدير وهو ينظر إليه بحدَّة وسخرية غير معتادة منه على الإطلاق، من ثَمَّ مدَّ يده داخل ملابسه ليخرج علبة سجائره السوبر ويقوم بإشعال سيجارة بعود ثقاب ألقى به على المكتب بوجه مديره، كان مشهدًا هزليًّا وعبثيًّا بامتياز يشبه أحد المشاهد الكوميدية بفيلم ساخر أو مسرحية كوميدية.
نظر العم سالم تجاه المدير، والذي ألجمته المفاجأة وأصابته بالدهشة والذهول في آن واحد.
نفث دخان سيجارته بوجه المدير وهو يقول بهدوء: هل تعلم ماذا أنت؟
المدير وقد استعاد وعيه المسلوب؛ بسبب ذلك الأمر غير المألوف، والذي لم يكن ليتوقَّعه مُطلقًا، وخاصةً من ساعي الإدارة الضعيف والمستسلم دومًا لكل إهاناته المتكررة، ليقول بصوت مرتفع وبغضب عارم ربما ليستعيد زمام المبادرة، وليعود لسيطرته المطلقة مرة أخرى:
- ماذا تفعل؟ وما هذا الذي تقوله أيها الـ….؟
لم يكد يُكمِل عبارته حتى قال له العم سالم وهو يحدجه بنظرة نارية:
- أنت لست سوى سافل بغيض، أنت لست رجلًا، وما أنت إلا نكرة وجميع العاملين بالإدارة يعلمون ما تفعله بك زوجتك ابنة وكيل الوزراء، والذي عيَّنك بهذا المنصب وما تفعله زوجتك بالبيت تنفثه علينا هنا؛ لتستعيد رجولتك المفقودة معها.
استطرد يقول بلا توقُّف: وما أنت إلا إنسان تافه وحقير ومُغفَّل.
كانت كلماته تُشبه طلقات الرصاص المتتابعة، حتى أنها ألجمت المدير لتجعل وجهه يمتقع ويتحول لونه للاصفرار.
حاول المدير جاهدًا أن يتماسك ليصرخ وهو يُردِّد بغضب:
- أنت مطرود مطرود، أخرج من هنا الآن وإلَّا أبلغت الأمن؛ ليقبض عليك ويُسلِّمك للشرطة.
على صدى أصواتهما وصراخهما تجمَّع الموظفون، والذين لم يستوعبوا ما يحدث، وظنوا أنَّ العم سالم لا محالة قد أُصيب بالجنون أو لوثة عقلية مفاجئة.
وقف العم سالم ونظر نحوهم بسخرية لم يعهدوها منه، وهو يقول لهم بشماتة وبلهجة ساخرة:
- تستحقون ما يحدث لكم، نعم تستحقون ذلك وأكثر ما دمتم تسمحون لهذا المغفَّل بإهانتكم والتقليل منكم، وتصبُّون جام غضبكم عليَّ.
قال ذلك من ثَمَّ همَّ بالخروج وهو يقول في لهجة متحدية:
- غدًا ستعلمون مَن أنا، وستندمون جميعًا.
ليغادر بعد ذلك مسرعًا إلى البيت.
تفاجأت زوجته بحضوره المبكر، وقد بدا عليها الخوف والقلق؛ لظنها أنه مريض أو ربما تعرَّض لمشكلة بالعمل، وعندما سألته عن سبب حضوره المبكر لم يجِبها، بل طلب منها أن تخرج لتعد له كوبًا من الشاي، وألَّا يسمع صوتها هي أو أي بنت من البنات.
انصاعت لأمره، وما إن أحضرت الشاي وتناول منه رشفة واحدة حتى ألقى بالكوب وهو يقول بحُنق وغضب:
- كم مرة أخبرتكِ أيتها الحمقاء أنني أريده وأحبه سكر زيادة؟ ألَا تكفي مرارة الأيام معكِ ومع بناتكِ؟
قالت له بصوت واهن وبانكسار: ولكن الطبيب حذَّرك من تناول السكر بكثرة؛ لإصابتك بالسكري.
أشاح بوجهه بعيدًا وهو يهمهم قائلًا: أنتِ فاشلة، وهل أتاني السكري إلا بسببكِ أنتِ وبناتكِ؟ ومَن يدري ربما سأُصاب بالضغط على يديكِ، لقد تحمَّلتكِ كثيرًا ويكفي أنكِ لا تنجبين سوى البنات.
صرف وجهه عنها قائلًا: تُرَى ما الذنب الذي اقترفته بحياتي؛ لأحظى بزوجة فاشلة مثلكِ وبناتكِ اللاواتي لا يكففن عن مطالبهن، ليأتي فيما بعد من يأخذهن على الجاهز بعد أن تستوطنني الأمراض.
نظر إليها فوجد دموعها تسيل على خديها بصمت، فنهض قائلًا:
- وها نحن سنبدأ فاصل النكد اليومي والمتكرر.
لينهض بغضب موجِّهًا لها الحديث:
- سأغادر ولن أعود، ومن بعد هذا اليوم لا شأن لي بكُنَّ، أليس من حقي أن يكون لي ولد يحمل اسمي ويكون امتدادًا لي ولإسمي من بعدي؟
أردف يقول في ثقة وتحدٍّ: نعم، سأتزوج ليكون لي ولد يرثني، وحتى أحظى بالحياة التى أحلم بها والتي أستحقها.
قال هذا وغادر لا يلوي على شيء تاركًا زوجته وبناته مع دموعهن وخوفهن بعد فقدهن لمن كان مصدر الأمان بالنسبة لهن حتى وإن كان لا يتقبلهن ويحتقر كونهن ولدن إناثًا على غير رغبتهن فهو بالأخير والدهن وحصن أمانهن.
ما إن خرج العم سالم من منزله حتى استوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يقوم بتوصيله إلى أحد الفنادق الرخيصة بوسط البلد.
حجز غرفةً لمدة أسبوع، وما إن دخل إلى غرفته ذات الأثاث البسيط واسترخى على سريره حتى عاد بذاكرته للوراء، وبالتحديد إلى تلك الجلسة التي جمعته بالمحامي.
تذكَّر كيف استقبله المحامي بحفاوة مُبالَغ فيها لم يعتَدْها من قبل خاصةً من هؤلاء الذين يطلقون على أنفسهم صفوة المجتمع، من ثَمَّ طلب منه تحقيق الشخصية؛ ليُطابقها مع بعض الأوراق التي وُضِعت أمامه، ثم سأله: ماذا يشرب؟
كان العم سالم يتحرق شوقًا لمعرفة تفاصيل هذا اللقاء.
تذكَّر لهفته وإلحاحه وهو يتوسَّل للمحامي؛ لمعرفة لماذا تم استدعاؤه بهذه الطريقة؟
هنا توجَّه له المحامي بسؤال مفاجئ: هل لديك أقارب يا عم سالم؟
تفاجأ بالسؤال -والذي كان سريعًا ومُباغتًا له- ولكنه أجاب بتوتر أنه لا شأن له بأقاربه، فهو شخص مسالم وفي حاله بعد أن ظنَّ للوهلة الأولى أنَّ أحد أقاربه متورط بأمر ما وقد يورطه معه.
المحامي وقد فطن لما يدور بذهنه، فاستدرك يقول:
- ليس الأمر كما تظن، ولكني أستوضح منك بعض الأشياء فقط لا غير، فأجبني ولا تقلق من شيء.
ثم سأله قائلًا وهو يتفرَّس ملامحه في هدوء: هل لديك ابن عم اسمه صابر؟
قال ذلك ثم نظر إلى الأوراق التي أمامه، ربما ليوضح له أنه يقرأ من ملف يحوي كل المعلومات عنه.
العم سالم: نعم، هو ابن عمي، ولكنه -وكما علِمت مؤخرًا- نزيل بمستشفى الأمراض النفسية والعقلية منذُ أخذت زوجته كل أمواله التي كان يرسلها من عمله بالخليج، وهربت مع شخص آخر؛ ممَّا أصابه بلوثة عقلية.
المحامي بنبرة هادئة: عظيم، فهذا يجعلك أنت الوريث الوحيد المؤهَّل للحصول على كل الإرث.
العم سالم بذهول وكأنه لم يفهم مغزى العبارة:
- ماذا تقصد بالوريث؟ وعن أي إرثٍ تتحدَّث!
المحامي: ماذا تعلم عن المدعو سعيد عبد الله محمود المصري؟
لبُرهة توقَّف تفكيره قبل أن يقول بتردُّد:
- هو ابن عمي المفقود منذُ عشرين عامًا أو أكثر، حتى إنَّ والديه ماتا بحسرتهما عليه بعد أن فقدا الأمل في العثور عليه.
المحامي: ابن عمك سعيد كما هو مذكور أمامي قد هاجر إلى جنوب إفريقيا منذُ سنوات طويلة؛ هربًا من حُكمٍ قضائي عليه؛ بسبب اختلاسه للمال من عمله، وبعد مغادرته مصر والاستقرار بجنوب إفريقيا أسَّس هناك مجموعةً كبيرةً من المطاعم الشرقية، وكوَّن ثروةً طائلةً كما هو مُوضَّح أمامي بالأوراق، وقد كتب بوصيته أسماء أقاربه بمصر، والمستحقون لهذه الثروة بعد موته، وهم بالترتيب: والداه، وأنت، وابن عمه صابر، وبالتحري عن والديه علِمنا بموتهما، وابن عمك صابر فاقد للأهلية؛ ممَّا يجعلك الوريث الوحيد له بعد إثبات عدم أهلية ابن عمك وعمه للتصرُّف بالميراث؛ لذلك فستكون أنت وصيًّا عليه وعلى الثروة كلها.
ما كاد المحامي ينهي عبارته حتى سرح العم سالم بخياله وهو يرى نفسه ثريًّا يرتدي أفخر الثياب، ويستقل أحدث السيارات مع سائق يفتح له باب السيارة باحترام، رأى نفسه يرتاد أرقى المطاعم، ويتنقل بين بُلدان العالم المتحضِّرة، والتي لم يكن يسمع عنها ويراها إلا بالتلفاز.
قطَّب ما بين حاجبيه بعفوية وهو يجزُّ على أسنانه عندما تذكَّر مديره ومن أهانوه وآذوه، وهو يفكر كيف سيرد على كل أذاهم له؟ وكيف سينتقم من كل مَن احتقروه أو عاملوه بسفالة من قبل، نعم، سيرُدُّ لهم الصاع صاعين، وسيُريهم كيف يكون الذُّل والهوان.
كما سيتمكَّن من الزواج بامرأة جميلة تُنجِب له الولد الذي سيحمل اسمه بدلًا من زوجته، والتي لا تلد إلا البنات.
سيبتسم بزهوٍ بوجوه أولئك الشامتين، والذين يُنادونه بسخرية بـ (أبو بطة) وكأنهم يُعايرونه ويذكِّرونه بأنَّ اسمه سيُمحَى من الدنيا وينتهي أثره بعد موته؛ لعدم وجود ولد له يحمل اسمه.
سيصبح شخصًا ثريًّا ومميزًا يُشار له بالبنان، وسيتمنى الجميع القُرب منه وتملُّقه؛ ليرضى عنهم.
لم يخرجه من شروده وخيالاته الحالمة سوى صوت المحامي وهو يقول له:
- مبروك يا عم سالم، على بركة الله.. نبدأ في اتخاذ الخطوات القانونية ومخاطبة الخارجية؛ لنتمكَّن من حصر التركة واسترداد ثروة المرحوم.
العم سالم وقد استعاد وعيه: ومتى سأحصل على الثروة؟
المحامي بهدوء: حتى الآن لم يأتِ الملف الذي يُوضِّح تفاصيل الثروة، وهل هي أموال سائلة يمكن تحويلها أم عقارات وسندات؟
أردف قائلًا: نحن بانتظار ذلك الملف من فرع مكتبنا بكيب تاون، والذي يحتوي على الوصية وأوراق التحويل وما يتعلَّق بأصول الثروة من ممتلكات، وما بين يدي فقط أوراق تُوضِّح الورثة وشهادة الوفاة فقط لا غير.
استطرد يقول بجدية: خلال أسبوع بأقصى تقدير سيصلني فاكس بكل شيء، فلا تقلق هي مسألة وقت فقط لا غير وبعض الإجراءات القانونية؛ لذلك أحتاج منك عمل توكيل لي، وكذلك مُقدَّم أتعاب ومصاريف؛ لمخاطبة الخارجية والجهات المعنية.
ليتنهَّد وهو يقول: كذلك ستوقِّع على أوراق بموافقتك بحصولي على نسبة ١٪ من الثروة بعد الحصول عليها وتحويلها من الخارج.
العم سالم وهو يُطأطئ رأسه ويقول بخجل: ولكنني حاليًا لا أملك أي أموال لأدفعها لك.
استطرد يقول بسرعة وكأنه يطمئنه: ولكني أعِدك بسداد كل شيء وأكثر بعد حصولي على الميراث.
المحامي بحسم وجدية: يجب أن توفر المال أولًا للسير بإجراءات حصر التركة ومخاطبة الجهات المعنية، كذلك استخراج إعلام الوراثة ومخاطبة الخارجية، وإلا فستتوقف كل الإجراءات حتى تُوفِّر الأموال اللازمة.
العم سالم بلهفة وقلق: حسنًا حسنًا، سأقوم بتوفير المال اللازم، لا تقلق سأوفره مهما كلَّفني الأمر، سأدبر المال.. سأدبر المال مهما كلَّفني ذلك.
لم يخرجه من خيالاته تلك واستعادة حديثه مع المحامي سوى طرقات على باب غرفته وعامل الفندق يطلب منه صورة من بطاقته الشخصية؛ لتسجيل بياناته بدفتر النُّزلاء حسب تعليمات الأمن بذلك.
نظر العم سالم لموظف الفندق، والذي كان بانتظار صورة من تحقيق الشخصية، ليقول له وهو يومئ برأسه: حسنًا، سأغادر الآن لقضاء بعض الأمور، وعندما أعود سأعطيك صورةً من تحقيق الشخصية بعد تصويرها.
قال هذا وهو يغادر الغرفة وبرأسه مئات الأسئلة والتخيُّلات، فمن أين له أن يحصل على المال اللازم لاستكمال إجراءات الميراث؟ وكيف سيحصل على الأوراق التي تُثبِت عدم أهلية ابن عمه صابر للميراث؟ ومتى سيأتي الفاكس ويحصل على تلك الثروة؛ ليبدأ تحقيق أحلامه، والتي طال انتظاره لها وقد تأخَّرت أكثر ممَّا ينبغي؟
بل متى سيبدأ عهده بالحياة لينتقم ممَّن عاملوه وكأنه حشرة وسراب ونكرة لا وجود له.
بالمال سيُعوِّض تلك الأيام من حياته، والتي لم يحيَها كما يحب أو حتى كما يجب له أن يحياها.
ربما آن الآوان وأخيرًا سيجد سعادته المفقودة، هكذا حدَّثته نفسه وخياله يأخذه إلى اتجاه واحد وهو حياته الجديدة.
حياته التي بدأت فعليًا بظهور المحامي ودخوله حياته بالوقت المناسب بعد أن أصبح محطمًا بما تحمله الكلمة من معان وقد أوشك على الإنهيار إبتسم بخبث وهو يردد إنه الشخص المناسب بالوقت المناسب، وربما قد آن الأوان لتبتسم له الحياة وينال ما يستحقه من السعادة.
لم يفِق من شروده وخيالاته الوردية إلا على صوت آلات التنبيه وصرخات السائقين من حوله وهم ينعتونه بالجنون والحماقة؛ لعدم انتباهه للطريق؛ ممَّا جعله يستوقف سيارة أجرة، ويطلب من قائدها التوجُّه إلى حيث يقطن ذلك المرابي الشهير بمدينة نصر؛ ليحصل على المال اللازم، ليبدأ أول خطوة على طريق الحُلم.
ما إن وصل للعنوان حيثُ يقطن ذلك المرابي حتى وقع على الكثير من إيصالات الأمانة على بياض مقابل ما طلبه من مال، وهو يقول بينه وبين نفسه:
- لا يهم ما سيحصل عليه ذلك المرابي، فما سيحصل عليه من ثروة سيغطي كل نفقاته وأكثر.
تذكَّر كلمات زوجته عندما أراد ذات مرة أن يقترض من ذلك المرابي وهي تقول له:
- يمكننا أن نتحمَّل شظف العيش ونصبر ولا نغضب الله ونأكل حرامًا.
غضَّ بصره وأصمَّ أذنيه وهو يهوِّن الأمر على نفسه قائلًا:
- إنَّ الغاية تُبرِّر الوسيلة، وإنَّ الضرورات تُبيح المحظورات.
تذكَّر كلمات كان قد سمعها من أحدهم وهو يقول:
- هناك مَن عاش ولم يعِش، وهناك مَن مات قبل أن يُولَد، وكثيرًا ما ندرك وبعد فوات الأوان أنَّنا الحلقة الأضعف بمعادلة الحياة.
أنهى توقيع الإيصالات عند المرابي ذي الابتسامة والأسنان الصفراء، ذهب بعد ذلك مباشرةً إلى مستشفى الأمراض النفسية والعقلية؛ ليحضر الأوراق التي تُثبت عدم أهلية ابن عمه صابر لمشاركته بالميراث، وحتى يصبح هو الوريث الوحيد لكل هذه الثروة.
ما إن وصل إلى المستشفى حتى طلب لقاء المدير، والذي بدوره حوَّله للطبيب المسؤول عن حالة صابر ابن عمه، ليبدأ حواره مع الطبيب بالسؤال عن صابر وعن حالته وما وصل له وضعه الصحي.
الطبيب وهو لا يخفي دهشته من سر هذه الزيارة؛ نظرًا لأنها الزيارة الأولى لأي أحد من عائلة صابر منذُ دخوله المستشفى، وهنا -وكمراوغة من العم سالم- كذب وهو يقول إنه لم يكن يعلم مكانه، وإنَّ ظروفه حالت دون البحث والتقصي.
الطبيب وهو يبتسم قائلًا: أن تأتي مُتأخِّرًا أفضل من ألَّا تأتي أبدًا، وربما قد تكون جئت بالوقت المناسب تمامًا يا عم سالم.
العم سالم: ماذا تقصد بذلك؟
الطبيب: حالة صابر مستقرة جدًّا، ويستطيع الآن الخروج وممارسة حياته بشكل طبيعي، فقط يحتاج لبعض الاهتمام والرعاية الأسرية مع بعض الرقابة؛ للاطمئنان على استقرار وضعه النفسي والعصبي.
كان حديث الطبيب بمثابة الصفعة التي نزلت عليه لتصيبه في مقتل، وليشعر بخيبة الأمل والضيق بنفس الوقت، لمَ لا وهذا المجنون -وبشهادة الطبيب- قد تعافى وسيحصل على أوراق تُؤهِّله لمشاركته في تلك الثروة، والتي يراها من حقه وحده.
هنا تفتَّق ذهنه عن خطة شيطانية لمنع هذا، وعقد أمره على التوجُّه للمدير مباشرةً؛ لينفذ خطته الشيطانية، ليمنع ذلك مهما كلَّفه الأمر من جهد أو مال.
دقائق مضت عليه مع المدير، وعندما خرج من هناك كان يحمل ملفًا مليئًا بالأواراق، وعلى شفتيه ابتسامة ماكرة وهو يشعر بالرضى عمَّا خطَّط له وسينفذه.
باليوم التالي مباشرةً توجَّه لمكتب المحاماة وهو يحمل ذلك الملف الذي يُثبت جنون صابر وعدم أهليته لاستلام الميراث؛ ممَّا سيجعله وصيًّا عليه وعلى المال، كذلك ترك المال الذي طلبه المحامي؛ ليقوم بإجراءات حصر التركة وإعلام الوراثة.
وما إن أوفى بجميع التزاماته حتى أبلغه المحامي بجدية واهتمام أنه سيبدأ المراسلات على الفور، ولن يستغرق ذلك سوى يومين أو ثلاثة كحد أقصى لحصر أصول التركة وتحديد قيمتها وأصولها المادية والعينية.
لأول مرة يشعر بهذا الشعور مع عدم معرفته وقدرته على تحديده، وهل هو شعور بالزهو وبالسعادة؟ أم أنها رغبة مُلحَّة ومحمومة بتعويض ما يشعر به من نقص والانتقام ممَّن عاملوه بعدم احترام وحقَّروا من شأنه؟
يومان فقط ويكتب القدَر حكاية أخرى وبداية جديدة له، هكذا شرد بخياله قبل أن يفيق من شروده على صوت المحامي وهو يُودِّعه قائلًا:
- اطمئن ولا تقلق، وكل شيء سيكون على ما يُرام وكما هو مُخطَّط له.
هنا نهض مُودِّعًا المحامي وهو يقول بصوتٍ خافت: الآن يبدأ فصل جديد بحياتي، وسأكون أنا البطل الأوحد وبلا منازع.
ثلاثة أيام من القلق والخوف والترقُّب مرَّت على العم سالم وهو لا يفعل أي شيء سوى النظر إلى هاتفه، وكأنه يرجوه أن يعلن عن تلك المكالمة التي ستُغيِّر مجرى حياته.
أصبح العم سالم لا يفعل شيئًا سوى الانتظار، وما أقسى الانتظار لشيء يُمثِّل كل شيء.
أصبح مُستعدًّا للتنازل عن كل شيء وفعل أي شيء، فقط ليرى تلك المكالمة التي ينتظرها بشغف، ولكنها تأخَّرت وكأنها لن تأتي أبدًا.
كان كلما رنَّ هاتفه ونظر إليه تأفَّف ساخطًا عندما يجد أنَّ المكالمة من زوجته، والتي لم يُجِب عليها في أي مرة، وكل ما يفعله هو إغلاق الهاتف وهو يُحدِّث نفسه قائلًا:
- ماذا تريد مني هذه اللحوحة هي وبناتها مني؟ ألَا يكفيهن ما سلبنَه مني؟! ألَا أستحق أن أحيا بهدوء وسعادة؟
حتى جيرانه ومعارفه وأصدقائه القُدامى لم يكن يتصل بهم أو يرد عليهم، فبالتأكيد وحسب تفكيره أنهم يريدون منه الرجوع للبيت بعد أن ذهبت إليهم زوجته وأخبرتهم بتغيبه عن المنزل.
- لا بُدَّ وأن أطلقها حتى أستريح منها للأبد.
هكذا حدَّثته نفسه الممتلئة بحُب الذات والمتشبعة بالأنانية حتى الثمالة.
حدَّث نفسه بزهوٍ وهو يتخيَّل حياته الجديدة وزوجته الصغيرة، والتي ستعيد له شبابه الآفل وتُشاركه السعادة التي يحلُم بها، وتنجب له الولد والذي سيكون امتدادًا له بالحياة.
تُرَى لماذا تأخَّر المحامي؟ ألم يقل يومان ويأتي الملف ليحصل على الإرث؟!
تُرَى لماذا لم يتصل بي حتى الآن؟
لماذا لا يرد على اتصالاتي المتكررة؟ هل أذهب إليه بنفسي؟
كلما ناداه العامل بالفندق ظنَّ أنَّ المحامي هو مَن يتصل على الهاتف الأرضي، والذي تركه بالمكتب؛ خوفًا من سوء شبكة المحمول حيثُ يقيم.
لا يدري كيف مرَّ هذا الليل عليه وسط مخاوفه وقلقه وتوتره حتى إنه لم يتناول أي طعام؛ بسبب خوفه وشعوره بعدم الأمان.
صباح اليوم الرابع استيقظ عم سالم على رنين الهاتف، وما إن نظر للرقم حتى قفز من مكانه كمَن أصابه مسٌّ من شيطان، فلم تكن سوى تلك المكالمة، والتي ينتظرها على أحر من الجمر من المحامي.
ثوانٍ مرَّت وهو يردِّد كلمة واحدة:
- حسنًا حسنًا، خلال نصف ساعة فقط أو أقل سأكون بالمكتب، لن أتأخر أبدًا.
استقلَّ سيارة أجرة وتوجَّه مُباشرةً للمكتب، وكله لهفة لإنهاء هذا الأمر؛ ليبدأ تلك الحياة التي يحلم بها، والتي استحوذت عليه كليًّا.
وما إن وصل حتى دخل إلى المكتب مباشرةً، وكله لهفة وشوق لاستلام الميراث الموعود.
ربع ساعة فقط قضاها بداخل المكتب مع المحامي مرَّت عليه كالدهر أو أكثر، ليخرج بعدها يحمل ملفًا كبيرًا يمتلئ بالأوراق، والتي تحمل الكثير من أختام دولة جنوب إفريقيا ومُوثَّقة من القنصلية والسفارة المصرية هناك.
عندما خرج لم يكن أبدًا هو ذلك الشخص الذي دخل منذُ قليل، كان شخصًا آخر على وجهه علامات الذهول وشحوب يُشبه شحوب الموتى وربما أكثر شحوبًا.
ظلَّ يسير بالشوارع هائمًا لا يلوي على شيء، ولا يدري إلى أين يذهب.
فقط دموعه هي ما تنساب على وجنتيه، ولا يدري أهي دموع الخوف من المجهول أم أنها دموع الندم والخجل؟
لماذا الآن فقط أصبح يدرك حجم الخطأ ويشعر بالندم وتأنيب الضمير؟ أين كان كل هذا وهو يخطط لحياته الجديدة منفردًا وبمنأى عن الجميع؟
ولكن هل ينفعه ندمه الآن؟
بأي وجه سيعود إلى البيت؟
هل يستطيع النظر في وجه زوجته وبناته؟ وماذا سيقول لهنَّ وكيف يبرر غيابه؟
حتى وإن عاد هل سيكون هو نفس الشخص الذي غادر منزله منذُ أيام؟
حتى وإن سامحته زوجته وغفرت له بناته وهو يتوقَّع منهنَّ ذلك؛ فهو لم يرَ منهن إلا كل خير وحُب واحترام.
ولكن كيف سيعود إلى عمله بعد ما فعله هناك مع الموظفين والمدير؟
كاد ينهار وهو يشعر بالأرض تكاد تميد به، وهو يتذكَّر ذلك المرابي وتلك الإيصالات التي وقَّعها على بياض، وقد أنفق كل النقود التي حصل عليها من المرابي؛ للحصول على الثروة.
تُرى ذنب مَن هذا؟
هل هو ذنب زوجته الطيبة وبناته؟
أو ربما هو ذنب صابر ابن عمه، والذي كان على وشك الخروج لولا رشوته لذلك المدير بعد أن وعده بمبلغ كبير من المال نظير تغيير التقرير الخاص بصابر، وإعطائه جُرعات تساهم بتدهور حالته العقلية؛ حتى لا يخرج من المشفى أبدًا حتى بقية حياته؟
للحظات شرد بذهنه متسائلًا:
هل هو إنسان شرير حقًّا؟
هل للشر جينات وراثية؟
هل هو مَن يقع عليه اللوم؟
أليس المجتمع بأفكاره وعاداته هو مَن صنع منه ذلك الشخص الأناني والمسخ غير الآدمي؟
أليس المجتمع هو مَن يسحق الفقير تحت الأقدام ويدوسه دون أن يُبالي أو يشعر بألمه ووجعه؟
أوليس هو نفس المجتمع الذي يرفع القُبَّعة للصوص والفاسدين ما داموا يمتلكون المال والجاه والمنصب؟!
أو ليس المجتمع هو مَن صنع من الراقصات وأشباه الفنانين ولاعبي الكرة نجومًا يُشار لهم بالبنان؛ ليصبحوا القدوة والمثل لبناتنا وأولادنا يحتذون بهم فيقلدونهم تقليدًا أعمى؟!
لماذا يقع اللوم عليَّ أنا وحدي؟
هل أخطأت عندما تمنَّيت أن يكون لي ولد ليحمل اسمي بمجتمع ذكوري؟
لماذا لا تُوجَّه الاتهامات للمجتمع الذي يُعاير الرجل والمرأة بإنجاب البنات، وكأنَّ إنجاب الذكور إنجاز وإنجاب البنات فشل؟
كلما ناداني أحدهم بـ (أبو فاطمة أو بطة) ضاحكًا ظننت أنه يسخر مني ويُذكِّرني بعدم إنجابي للولد، وكأنه يُعايرني بذلك.
هل من العدل أن تحاكموني وحدي وتُحمِّلوني وزر أخطاءكم؟ ألست أنا جزءًا منكم ومن مجتمعكم؟ ألَا تجدون داخلكم بعضًا مني؟ ألَا أشبهكم وتشبهونني؟
اسخروا مني ولوموني وانعتوني بأبشع السُّباب والشتائم، ولكن انظروا أولًا إلى داخلكم، ستجدون العم سالم بكل مساوئه وسلبياته يُعشِّش بعقولكم وأرواحكم حتى وإن أنكرتم وجوده أو تبرَّأتم منه ومن أفعاله بالقول، إلا أنه بداخلكم عندما تأتي اللحظة المناسبة ليخرج للعلن.
لم يخرجه من هذيانه وتلك المحكمة التي نصبها لنفسه وللمجتمع سوى صوت بعض جيرانه وهم ينادونه ويطمئنون عليه، وهو لا يكاد يراهم أو يشعر بهم وكأنه بعالم موازي غير عالمهم.
سمع أحدهم يقول: لقد عاد من البلد بعد أن ذهب للسؤال عن قريبه المريض كما قالت أم بطة.
إذَن فأم بطة لم تشكُه لأحد ولم تفضحه، بل هي صانت سره كالعادة فلم تفضحه ولم تُشهِّر به.
شعر بتأنيب الضمير وهو يُطالِع وجوه جيرانه الطيبين وملامحهم البشوشة رغم قلة مواردهم وتلك المباني البسيطة التي يسكنونها.
ولكن هل يُعقَل أنه قد وصل لحارته دون أن يشعر بالوقت؟
كيف ساقته قدماه إلى هنا؟ وكيف سار كل هذه المسافة الطويلة على قدميه دون أن يشعر؟
تقدَّم باتجاه شقته بخطواتٍ مُتثاقلة ومرتعشة، وعلى أعتاب مدخل البناية توقف لبُرهة؛ ليتذكَّر كلمات المحامي والتي وقعت عليه كالصاعقة:
- ابن عمك بآخر أيامه ضارب بكل ثروته بالبورصة، حتى إنه ضارب بتلك النقود والسندات، والتي كانت عبارة عن قروض من البنوك لم يقُم بسدادها، وقد خسر كل أمواله بالبورصة، لحجز البنوك هناك على جميع ممتلكاته ومطاعمه، ولكن –وللأسف- فكل ممتلكاته بجنوب إفريقيا لم تكفِ لسداد ديونه؛ لذلك تواصلوا مع السفارة المصرية؛ للحجز على أي ممتلكات له بمصر، وبما أنه ليس له ورثة بمصر غيرك بعد وفاة والديه ووجود ابن عمك الآخر بالمستشفى النفسية والعصبية بناءً على المستندات التي قدَّمتها أنت، والتي تحمل توقيع الطبيب وأختام المستشفى، فلم يتبقَّ سواك كوريث لمراسلته ومخاطبته بشأن ما يمتلكه ابن عمك سعيد؛ للتصرف فيه وسداد ديونه للبنوك هناك.
ختم المحامي كلامه وهو يُذكِّره بأن أتعابه سيحصل عليها منه هو، ولا داعي للجوء للقضاء، فهو يستطيع أن يجعله يقضي ما بقي من عمره خلف الجُدران.
ضحك بتهكُّم وسخرية ودموعه تسيل على وجنتيه لتبلل شاربه، وعلى باب شقته وقبل أن يطرق على الباب بيده المرتعشة وضميره الذي يؤنبه سمع ضحكات بناته وهنَّ يلهونَ بعفوية وببراءة، وكأنه ولأول مرة يسمع أصوات ضحكاتهن الجميلة والمشعَّة بالسعادة.
تذكَّر كيف كان من الممنوعات أن تصدر منهن أيَّة أصوات بوجوده، يا الله! كم هي رائعة ضحكاتهن وبراءة لهوهن!
شرد بخياله وعاد للوراء ليتذكَّر كلمات زوجته له بلحظة صفاء عندما رجَته وتوسَّلت إليه ألَّا يترك بناته كاليتامى، وقتها صدمته عبارتها فنظر إليها بغضب وهو يوبِّخها قائلًا: وكيف يصبحن يتامى بوجودنا أيتها البلهاء؟
يومها ردَّت عليه بعبارة صادمة عندما أخبرته أنَّ يُتم المشاعر أقسى وأشد ألمًا ووجعًا من يُتم الأهل وهم على قيد الحياة.
أخرجه من شروده الصوت القادم من خلف باب الشقة؛ حيثُ سمع زوجته وهي تخبر جارتها أنها ستنهي فستانها اليوم، وسيكون رائعًا، ولن تأخذ منها سوى تكاليف الخام فقط، ولن تحصل على أي أتعاب منها؛ لتقوم بالدعاية لها عند الأقارب والجيران.
سمع جارتها تخبرها أنها ماهرة، وأنَّ جميع الجيران سيُحضرن لها كل ملابسهن لتقوم بحياكتها لهن، وستصبح أشهر خياطة بمصر كلها؛ لأنها موهوبة بالفعل.
سمع زوجته وهي تقول: إنَّ المال ليس الغاية أو الهدف، إنما هو فقط وسيلة لقضاء الحاجة، وأنه ما دامت أسرتها وزوجها وبناتها بخير فهي تشعر وكأنها ملكة متوَّجة.
الآن فقط وهو خارج شقته ومن خلف الأبواب، ولأول مرة يشعر بالسعادة داخل بيته ويشعر بالفرحة بين الجُدران رغم غيابه.
تُرى.. هل كان هو العائق؟
هل من المعقول أنه مَن كان يمنع هذه السعادة من تجاوز الجُدران والدخول لقلبه؟
هل يُعقَل أنَّ السعادة بكل معانيها كانت طوال الوقت أمامه وعميت عيناه أن تراها؟
كيف لم يرَ هذه السعادة والمتمثِّلة بزوجة رائعة طيبة وبنات يُشبهن القمر في رقتهن ونعومتهن، ورغم ذلك لم يستغل ولم يعِش هذه السعادة الحقيقية، وراح يبحث عن الوهم ويركض خلف السراب باحثًا عن سعادة زائفة ظنَّها تأتيه بالمال.
نعم، هذه هي الحقيقة، والتي -للأسف- توصَّل لها وأدركها بعد فوات الأوان.
للأسف أدرك الآن فقط معنى السعادة الحقيقية.
تُرَى.. ماذا لو عبَر الآن ذلك الباب الذي يحول بينه وبينهن؟ هل سيأخذ هذه السعادة ويسلبها منهن مرة أخرى؟
هل سيصبح عبئًا عليهن؟
هو الآن أصبح بلا عمل، بل وأصبح مطلوبًا بقضايا إيصالات الأمانة لذلك المرابي وأتعاب المحامي.
نعم، هو سيُلوِّثهم بوجوده وسيصبح وصمة عار بحياتهن والنقطة المظلمة بينهن، هذه المرة وللمرة الأخيرة سيتصرَّف كأب مُحب لزوجته ولبناته، ولن يكون أنانيًّا معهن.
يكفيه فقط أن يعلم أنهن بخير، وأنهن -وأخيرًا- وجدنَ السعادة الحقيقية وأدركنَ ماهيتها، والتي حرمهن منها وحرم نفسه أيضًا منها.
أدار ظهره للباب وهو يرهف السمع ليسمع لأول وآخر مرة ضحكات بناته وهو يُردِّد ودموعه تُبلِّل وجهه: ليتكُنَّ تسامحنَني.. ليتكُنَّ تسامحنَني.