يتجول سليم في شوارع القاهرة نهارًا، يتأمل المارة، ويقرأ وجههم، ينظر إلى السماء الصافية كم هي جميلة اليوم ويستنشق الهواء، ظل يسير في طرقات متفرقة حتى أخذته قدميه إلى أحد البنايات لا يعلم كم من الوقت قضي سيرًا على قدميه، ألقى التحية على القهوجي وطلب منه مشروب القهوة المفضل لديه، ثم اخرج كتاب ليقرأ قليلًا، كان يرى في القراءة عالمه الثاني الذي يسترخي فيه، وكان عاشقًا للأدباء العرب كثيرًا وكم تمني أن يجلس مع شخصية أدبيه ولكن لم يحالفه الحظ، كما أنه يحب ويفتخر كثيرًا بلغته، حتى التحق بكلية الآداب قسم اللغة العربية، سمع سليم رجلين في توجس يتحدثان عن سيارة أجرة أمرها غريب بعض الشيء، ظل يراقبهم ويستمع لهم ثم انتبه عند وضع كوب القهوة، رفع عينه إلى عم أحمد القهوجي سائلًا: ما أمر تلك السيارة؟

أردف عليه قائلًا: لا أعلم فالجميع اليوم يتحدثون عنها.

ارتشف قليلًا من القهوة ثم عاد يقرأ ببالٍ منشغل.

تنهد سليم وأغلق الكتاب، وعقد يديه أمامه ببطء كأنه يعقدها عبر الماء، وفي باله تلك السيارة، يسأل نفسه ما بها تلك السيارة ليهتموا بأمرها، أليست وسيلة مواصلات مثل أي وسيلة؟

وظل هكذا يطرح على نفسه كثير من الأسئلة دون أن يعثر على جواب..

انتهى سليم من شرب قهوته، ووقف ليستعد للذهاب إلى منزله، مودعًا عم أحمد.

* * *

أوقف سليم سيارة أجرة ليعود لمنزله، محدثًا السائق قائلًا: شارع المهندسين؟

هز رأسه في إيجاب، ثم ركب سليم بجواريه، وظل ينظر من النافذة ويتأمل الشوارع والمارة، ثم انتبه ووجد الطريق الذي يأخذه السائق غريبًا ولم يتعارف عليه قط، فقال في سريه لعله يختصر مسافة الطريق.

غلب النعاس سليم ومال برأسه على نافذة السيارة.

* * *

طال الوقت لمدة ساعتين وسليم ما زال منغمسًا في نومه.

ولأول مرة تحدث السائق وقال: لقد وصلنا يا سيدي.

استيقظ سليم على صوته، وظل يلتف حول ذاته في دهشة غير مدرك أين هو؟

سأل السائق: أين نحن؟

لم يرد عليه، فأخذ يسأله مرارًا وتكرارًا، ولكن دون جدوى لم يتفوه بشيء.

نزل سليم من السيارة.

ينظر في ساعة يديه فيجدها متوقفة، وأخرج هاتفه ليجد أيضًا أنه لا يوجد شبكة، ظل يلتف حوله في اندهاش لعله يتعرف على هذا المكان الغريب!

فرفع رأسه ليتفاجأ بلافتة كبيرة أمامه مكتوب عليها مدينة الأدباء، ليقرأها عدة مرات غير مصدق، فأدرك بعض الشيء أن السيارة أخذته في رحلة عبر الأدب.

دخل سليم المدينة ووجدها تشبه الحديقة، بها مساحة كبيرة من الأرض الخضراء وبها مقاعد للجلوس، ومكاتب كثيرة.

وملابس الناس تشبه زمن التسعينيات.

غمرت سليم السعادة، كم تمنى أن يبقى في مثل هذا المكان، ظل يتجول في المدينة حتى وصل إلى مكتبة كبيرة، فأغرم بها ودخلها ليرى المفاجأة الأكبر...

وجد مجموعة من الكُتاب جالسين مع بعضهم البعض، يتناقشوا ويتشاورا..

وسليم في ذهول تام غير مصدق ما يرى، أمامه مجموعة من الكُتاب المفضلين لديه (طه حسين، نجيب محفوظ، عباس العقاد، يوسف العباسي، أنيس منصور، د. أحمد خالد توفيق).

أصاب سليم الفضول ويقول في نفسه: مجموعة من كبار الكُتاب جالسون مع بعضهم هكذا بلا أدنى شك بأن المناقشة هذه في غاية الإثارة والجمال.

اقترب منهم قليلًا كي يسمع مناقشتهم.

وليجد سليم بأن يوسف السباعي يبدأ المناقشة بسؤال موجهًا لشمس المعرفة طه حسين.

ما رأيك في قضية اللغة الفصحى والعامية في كتابة الروايات.

ويرى الأديب يوسف السباعي بأنه يوجد خصومه في هذه القضية.

أجاب طه حسين عليه قائلًا: بأنه من أنصار الفصحى ومن خصومة العامية، ولكن ليس معنى هذه الخصومة بأنه لا يحب أن يدخل جملة أو جمل قليلة في الكتب بالعامية وذلك عندما تلزم نستخدمها للتعبير عن حالة، وإنما الذي يكرهه هو أن تكون الكتابة كلها بالعامية ونبذتم اللغة العربية نبذًا تَامًّا.

ويدخل نجيب محفوظ سائلًا: يلاحظ الذين يؤرخون معارك الأدب فيما مضى أن هذه القضية أثيرت من قبل، وانقسم الأدباء بين المدافع عن العامية والمدافع عن الفصحى، وبعض الناس يعتقدون بأن ما يُثار الآن حولها هو في حق تشبه القضية المزيفة، وأنها ليست كذلك.

ليجيب شمس المعرفة: نعم إنها ليست مزيفة مطلقًا، اللغة الفصحى هي الطريقة الوحيدة إلى تحقيق الوحدة بين الأمم العربية، إذا كتبت بالفصحى فهمك العرب جميعًا من المحيط إلى الخليج كما يقال، وأنصار الفصحى يفهمون العامية ولكن يضيقون بها أشد الضيق.

مَثَلاً إذا كتبت بالجزائري فالعراقي لا يستطيع أن يفهمك والمغربي لا يستطيع أن يفهمك، وإذا كتب المغربي بلغته فلا نستطيع نحن أن نفهمه.

ويذكر د. طه حسين موقفًا ويقول: لن أنسى عندما زرت المغرب الأقصى وكان المرحوم محمد الخامس قد استقبلني وكان يحدثني ويقول في الحديث إنه مسرور جِدًّا، يريد أن يقول إنه مسرور جِدًّا من موقف مصر بقياس استقرار المغرب، فكان التعبير نحن مسرورون من الموقف ديالكم أمام قضية الاستقرار.

فكانت ديالكم هذه لم أفهمها إلا فيما بعد، بعد أن سألت عنها بعد خروجي من عند الملك سألت بعض أخواتنا وسألت المستشار الثقافي في هذا الوقت وهو الذي فسرها لي.

وكنت أردد بها طول إقامتي في المغرب، ولا أنسى عندما سافرنا وركبنا السفينة وتركنا المودعين، كلمته من بعيد فقلت لهم وجهوا التحية مني إلى البلاد ديالكم فضحكوا وضحكنا جميعًا.

ويدخل عباس العقاد في النقاش مؤيدًا للغة الفصحى، وقال:

يجب أن تكون الكتابة بالفصحى قوية، ولا نكترث قط للعامية، فإني أضيق بها أشد الضيق، ويجب أن نتمسك بلغتنا أكثر من ذلك حتى لا تتلاشى.

تحدث أنيس منصور معارضًا لما قاله عباس العقاد قائلًا: أتفق معك في أن نتمسك بلغتنا ونكتب بها، ولكن يجب أن تكون اللغة سلسة قليلًا وليس معقدة حتى يفهمك فئة الشباب.

فيقاطعهم د.أحمد خالد توفيق قائلًا: أرى بأنه من ألازم أن تكون بعض الكتابة باللغة العامية، لأن أصبح معظم فئات الشباب لا تفهم اللغة العربية المعقدة ويشعرون بالملل عندما يقرؤون كتابًا لغته صعبة، مما يؤدي إلى قلة القراءة عند الأجيال الجديدة.

ودخل جميع الأدباء في صراع بين مؤيدي الفصحى ومؤيدي العامية.

ليستيقظ سليم من نومه على ذلك الصراع غير مصدق نفسه أنه كان يحلم كل هذه المدة..

سليم: إنه كان حلمًا جميلًا، كم تمنيت أن أستمع إلى أولئك الأدباء وهم يتناقشون، وأنها ليست أي مناقشة، إنهم كانوا يتحدثون عن اللغة الفصحى والعامية وهي من المواضيع الأكبر أهمية في هذا الوقت الذي قل فيه حب القراءة عند الشباب، ولم ينتهِ الصراع على حل مناسب لهذه القضية ولكن الذي رأيته أن كل جيل مختلف عن الآخر في وجهات النظر، في جيل طه حسين ونجيب محفوظ أنهم يتفقون على شيء واحد وهو أنه لا داعي في أن ندخل قليل من العامية عندما تلزم، ولكن لم يعجب ذلك عباس العقاد وطالب بأن تكون كلها فصحى، وذعر من ذلك أنيس منصور وأراد أن تكون بها بعض السلاسة لكي نجذب الشباب أكثر، وانتهى بالدكتور أحمد خالد توفيق والذي أتفق معه كثيرًا لأنني من جيله ولا بد بأن تكون الكتابة معظمها بالعامية لكي يفهم جميع فئات القراء الشباب، ويخرج للعالم جيل قارئ مثقف واع، فلا بد من أن نجذبه للقراءة عن طريق تبسيط بعض اللغة عليهم ويكون الأسلوب سلسًا.