دقات الساعة تعلن تمام الواحدة بعد منتصف الليل، تتزامن إيقاعاتها مع تلك الدقات على باب المنزل، عجبًا.. من ذا الذي يأتيني في مثل هذه الساعة؟ أنهضُ من فراشي بارتياب، أتحركُ صوب الباب بحذر، أنتم تعلمون أني أقطن تلك الضاحية النائية منذ ما يقرب من شهرين كاملين، لم يزرني أحد هنا على الإطلاق، فمن يكون الطارق يا ترى؟؟ ها هو صوتي يخذلني من جديد؛ فيخرج مرتعدًا يتساءل في رهبة:
-من بالباب؟
-أنا تسنيم.. لا تخافي "ربى" هيا افتحي الباب، أم ستتركينني هكذا أقف حتى الصباح...!!
تسنيم!! عجبًا.. ما الذي أتى بتلك المزعجة في مثل هذا الوقت؟
أَسرعُ بفتح المزلاج، ألقاها بدهشةٍ مرتابة، أنظر جهة اليمين وجهة اليسار قبل أن أدخلها وأغلق الباب من جديد..
-أهلًا تسنيم..
أقولها في رهبة.. أتبعها كاذبة ب "أنرتِ".
تنظر لي نظرتها الماكرة التي أمقتها، ثم تتساءل في لهجةٍ ثعلبية:
-عجبًا.. لِمَ لم تسأليني عن سبب قدومي إليكِ هنا في مثل هذا التوقيت؟
-حقًا.. ما الذي أتى بكِ الآن؟ لا بد وأنه أمرٌ جلل..
-بالطبع عزيزتي.. فكل أموري هامة كما تعلمين.. أتذكرين قارون؟
-عن أي قارونٍ عزيزتي تتحدثين؟؟
-أتحدث عن قارون جارنا القديم، ذاك المولع باكتناز النساء، من ظن أنه امتلك مفاتيح قلوبهن بقبلةٍ يطبعها فوق الأيادي، وبرفةِ عينٍ وانحناء.. ألم يصلكِ خبرٌ عنه بعد؟ عجبًا.. ظننتكِ تقتفين آثاره بعد ما قد كان بينكما.
-ولِمَ أفعلُ عزيزتي من الأساس؟ هي قصة أغرقتها منذ زمنٍ في يم ذاكرة النسيان..
-لكن بعض الذكريات تطفو فوق أسطح الحنين حبيبتي.. قالتها ثم رمتني بنظرة ذات مغزى.
-صدقيني تنسيم.. أنا ما عدت أفكر به على الإطلاق.
-إذًا فأنتِ لا تعلمين بعد بأنه قد لقي حتفه.. وجدوا جثته طافيه هناك في تلك البحيرة التي تحمل اسمه.. لقد استدعوني لفحص الجثة بحكم عملي كطبيبةٍ شرعية، يبدو أن أحدهم قد قرر تخليص العالم من أمثاله؛ فألقاه في مياه البحيرة بعد أن قيد قدميه بالسلاسل، ولكن كما تعلمين حبيبتي فليست هناك من جريمةٍ مكتملة الأركان، فيبدو أنه كان ما يزال حيًا لحظة إلقائه في المياه، فقد وجدتُ إحدى يديه مطبقة على هذا الشيء..
قالت هذا ثم أخرجت خاتمًا ذهبيًا به نقش فرعوني، عجبًا.. لِمَ يبدُ لي هذا الخاتم مألوفًا هكذا؟
أكملت قائلة..
- انظري إلى هذا الخاتم "ربى"، ألا يذكركِ بشيء ما؟
أبعدتُ نظري بينما أتعمق داخل الشقة.. تبعتني هي في إصرار بينما تخبرني أن هذا الخاتم يحمل اسم قارون بالهيروغليفية، وأنه قد أهداه أمامها منذ سنتين إلى إحدى حبيباته الكثيرات، وأنها تعلم من هي تلك الحبيبة المطعونة في حبها، وتعلم أنها هي من ارتكبت تلك الجريمة، وأنها في سبيلها إلى تسليم تلك القاتلة إلى الشرطة.
رن هاتفها مقاطعًا سيل كلامها؛ فأجفلت وأخرجته من حقيبة يدها، وقبل أن تتمكن من إجابة تلك المكالمة.. عاجلتُها بضربةٍ على مؤخرة الرأس بمضرب الهوكي الذي أحتفظُ به ها هنا في الردهة، سقطت مغشية عليها فأتبعتُ تلك الضربة بعدة ضرباتٍ متتالية كانت كفيلة بإيصالها حيث تلتقي قارون هناك في العالم الآخر.. جلستُ منهمكة القوى أحاول التقاط أنفاسي بعد كل هذا الإجهاد..
ألقيت عليها نظرة يملأها الرضا عمّا أتممته الآن، فها أنا ذا قد خلصت العالم من ذبابةٍ لحوحةٍ أخرى، لن يكون التخلص من الجثة صعبًا على أية حال، ولكن تبًا.. إن دماء تلك الحدأة المزعجة قد لطخت بساطي الوردي الجديد..
أتعتقدون أن ذلك المسحوق الذي ابتعته ليلة أمسٍ سيتمكن من إزالة كل تلك البقع؟ أرجو ذلك..
لذا أستميحكم عذرًا أن تخرجوا الآن، فأمامي مهمة صعبة كما ترون، فقط فلتدعوا لي بأن أتمكن من إزالة آثار كل تلك الدماء، فأنا شديدة الاهتمام بالنظافة كما لاحظتم، أزيل الأتربة من فوق سطح الأثاث، وأزيل تلك الكائنات العفنة من فوق سطح الأرض.
يا الله.. كم أنا مخلوقة نورانية نادرة الوجود..!!
ولكن قبل أن تخرجوا، هلّا ناولتموني دلو الماء من هناك إذا ما تكرمتم؟؟