إن الشمس قد غادرت حياتنا لا لتستريح و لكن لتجير قوما أخرين باتوا ليلتهم في انتظارها . . فنهارنا حياة و ليلنا لباس يواريها و أيام خلت و أيام تأتي تضاهيها . . هذا ما اقترفه شادي من مخيلته و هو ثاويا بالجانب الهادئ من الشاطئ منفردا بذاته منقبا عنها يجدها تارة كما بين في رحيل شمس يومه و طي صفحته و تارة أخرى يراها كأمواج البحر المتسارعة نحو الشاطئ لديه تأتي من عرض البحر و ما دونه فرحة بذلك لتفنى بشاطئه . . حدثته نفسه بالرحيل و بالفناء أسوة بما يجد و بما يرى فامتثل لهواها و هم بالإنتحار لو لا أن تداركه شيخ كبير أشفق عليه فالتقطه قبل أن يلقي بنفسه منتحرا و عندها انتبه شادي كأنه أوقظ من سبات :
ـ من أنت
ـ أنا من أعادك للحياة
ـ ليس بعد
ثم استطرد شادي قائلا مستسلما و مطبقا أجفانه :
ـ فأنا حي أتنفس و لكني ميت لا أتذوق . . ليس لحياتي طعم . . و . ,
لم يتم حيث قاطعة الشيخ قائلا متعجبا :
ـ بل ليس لحياتك هدف
ثم رمقه الشيخ بنظرات جالت في ثناياه :
ـ ماذا تريد من الحياة
حينئذ فتح شادي عيناه بدمع منهمر و قال مقتطبا :
ـ لا شيء .... لا شيء ..
فأمسك الشيخ بيدي شادي فاضطرب قليلا و نظر إليه شادي لحظة ثم استطرد :
ـ أنا لا أريد سوى الموت ... الموت ..
فلم يمهله الشيخ :
ـ أتريد الموت .. و ماذا أعدت له
فرفع شادي رأسه و بدت الحيرة على وجهه و تردد لحظة ثم قال بصوت منخفض :
ـ لا شيء .... لا شيء ....
فقلب الشيخ وجهه في السماء و قال بغير اكتراث : " بل أعدت له .. " ثم التفت إليه و فاجئه قائلا و هو يشير إليه بسبابته :
ـ أعدت له هذا الدلو
فأمعن شادي النظر في حاله و محيطه و شرع يضرب كفيه على ما قاله الشيخ ثم تلفظ في حذر ما استنكرته نفسه :
ـ أي دلو .. أنا لا أحوز شيئا
ـ نعم أنت لا تحوز شيئا .. لأن الشيطان استحوز عليك و جردك من كل شيء إلا من هذا الدلو
قال الشيخ ذلك ثم أومأ إلى شادي الذي ازدادت حيرته فقال مستفسرا :
ـ أي دلو .... أين هو ...
فأجابه الشيخ على الفور :
ـ أنت هذا الدلو ... دلو المتعة ... الذي أغرقت نفسك فيه و لما أرادت الحياة قدتها أنت إلى الموت
ـ أنا ... أنا ميت ... لا أتذوق ... ليس لحياتي طعم
ـ نعم ليس لحياتك طعم ... لأنك لم تتذوق إلا المتعة و لم تلعق غيرها ...
لم يتم حيث فاجئه شادي مصدقا له :
ـ نعم
ثم أوضح أنه شاب انغمر في ملزات الحياة و تاه في غيابتها و قد ساعده على ذلك ثراه و أثناه عن الجوانب الأخرى من حياته فلم يرى حياته إلا متعة و لم يرى فيها غير ذلك و نشأ لا معقب لأفعاله فظن أن هذه هي الحياة .
و عندئذ شعر شادي بأن نفسه تشتاق الآن إلى حياة جديدة غير التي ألفها و لكنه لا يستطيع تحديدها بنفسه فصرح بذلك قاصدا المساعدة :
ـ أريد حياة جديدة ...
ثم التفت إلى الشيخ و قال كأنه تذكر شيئا :
ـ آه .. أريدك أن تعيدني إلى الحياة كما زعمت و لكن حياة جديدة .. جديدة
فرح لذلك الشيخ فرحا شديدا و حمد الله في نفسه و تذكر قوله سبحانة و تعالى " و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا " و أسرع قائلا مستوضحا :
ـ أتريد أن تكون إنسانا جديدا
فانتبه شادي ثم صمت هنيهه في حين استمر الشيخ يرددها :
ـ أتريد أن تكون إنسانا أخر
فأجابه شادي بغير اكتراث :
ـ كلا
ثم أردف متمما :
ـ أريد أن أكون شيئا أخر .. كائن جديد
ارتعد الشيخ رعدة خفيفة ثم قال متعجبا :
ـ أحمار أنت
فأجابه شادي على الفور كأنه استرد ضالته :
ـ نعم
ثم أردف متمما :
ـ حمار . . أريد أن أكون حمارا
و هنا دعا الشيخ ربه أن يعطي شادي مسألته و يهديه سبله و تأمل قليلا فوجد أن ما فيه شادي ليس بخير أبدا ثم اقترف من مخيلته قول الرسول صلى الله عليه وسلم: أما يخشى أحدكم إذا رفع رأسه قبل الإمام أن يجعل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل الله صورته صورة حمار فأيقن أن شادي كان لابد أن يكون حمارا منذ أمد .
و سرعان ما تحول شادي إلى صورة حمار .. تحول المسكين و قد طأطأ الرأس و هو حزين حيث صار له رأس كبير وذيل قصير ينتهي بخصلة شعر، حوافره صغيرة وأذناه طويلتان و ما لبث أن أحدث نهيقا كالرعد و ركل بقدميه الخلفيتين ركلات في الهواء ثم هرول نحو حياته الجديدة و هو لم يفتر ينهق حتى ملأ السماء ضجيجا
و بينما شادي في أروقة الحياة الجديدة يسير على ضفاف نهر يجري بإحدى القرى المتوارية خلف الأشجار و الأغصان الكثيفة يأكل من الحشيش الذي نبت على جانبي النهر إذا بمزارع يلتفت إليه فجأه و يمعن النظر فيه و كأنه يشبه عليه حمار يعرفه ثم دنى منه ليتبين مظنته و ما لبث أن انفرجت شفتاه عن ابتسامة عريضة قال بعدها متعجبا :
ـ آه .. حمار سعفان البخيل
ثم قال مستطردا :
ـ هذه عادته يسرح حميره ليأكلوا من الأرض و يبخل عليهم بشعيره .. ويل للبخلاء يجمعون الأموال و يحوزون الفقر
و من ثم مسح المزارع على رقبة شادي و هو في صورة حمار ليستجلب وده و لتسهل قيادته إلى صاحبه البخيل كما يظن و بالفعل تحرك الحمار المتحول (شادي ) مع المزارع حيث أراد فإذا بهما بإيزاء باب متقادم كأنه برز إليهما من قصص الأساطير فما كان من المزارع إلا أن طرق الباب و لبث كذلك حتى ألمته يداه :
ـ افتح يا سعفان
قال المزارع ذلك بصوت مرتفع في حين ظل يردد بصوت غير مسموع :
ـ افتح يا بخيل .. افتح يا بخيل
فتناهى إلى سمعه صوت كأنه غيض من جب :
ـ من الطارق
ـ أنا ..
ـ من أنت
ـ أنا من سوف يرد إليك أموالك
فأخذ يلهث البخيل نحو بابه حتى فتحه بعبارات من الترحيب سبقته إليه فألفيا المزارع و الحمار لدى الباب و لم يسعه سوى أن سأل المزارع عن الأموال ثم أردف مدعيا :
ـ آه .. إنها محفظة النقود خاصتي .. قلما مكثت في جيبي
ـ بل كن صادقا وقل قلما غادرت جيبك
غضب لذلك البخيل غضبا شديدا و قال مقطتبا :
ـ لا أسمح لك بالمزاح هكذا .. ليس لدي وقت لذلك فالبال مشغول
المزارع مبتسما :
ـ طبعا بالنقود
تجهم البخيل لحظة و أظهر رغبته في الإنصراف غير أن المزارع أمسك بيديه المرتعشتين من أثر الإنفعال و أطلعه على الحمار المتحول ( شادي ) و أخبره كأنه يكافئه :
ـ هذه هي الأموال ..... حمارك .. يا رجل
البخيل متعجبا :
ـ حماري
قال المزارع مؤكدا :
ـ نعم حمارك
ثم أردف متمما :
ـ لقد وجدته يأكل من حشيش الأرض
أقبل البخيل على الحمار يتبينه فإذا به يعانقه معربا عن سعادته بعودته :
ـ حماري حبيبي .. حبيبي
ثم وجه الشكر إلى المزارع بعبارات جوفاء خالية من مظاهر الحياة جرت العادة إليها في مثل هذه المناسبات متجاهلا في ذات الوقت مكافئة المزارع على ما قدم له من معروف يظنه المزارع معروفا و لكنه استمع إلى صوت شيطانه الذي سول له احكام حيلته للإستلاء على هذا الحمار و تصريف المزارع قبل أن تنكشف حيلته ثم انصرف المزارع مودعا البخيل بغير اكتراث :
ـ السلام عليكم
ـ و عليكم السلام و رحمة الله و بركاته
رد البخيل السلام كذلك بغير اكتراث لإنشغاله بالحمار في حين أبدا الحمار إعتراضه على ما حدث بحركات مضطربه و أعلن عدم موافقته على ما تم بنهيق أحدث صدعا في كيان البخيل مما اضطره إلى التحفظ عليه بداخل الإسطبل خاصته على وجه السرعة
وجد الحمار وجدا شديدا بمجرد إيداعه بالإسطبل و لكنه سرعان ما تبدل هذا الحزن إلى سعادة أو شيء منها حيث التقى في الإسطبل بحمارين و كلب قاموا جميعا بالترحيب به كل بطريقته و أبدوا جميعا رغبتهم في صدااقته و في الوقت ذاته أبدوا جميعا إشفاقهم عليه من الحياة مع بخيل للدرجة التي دعت أحد الحمارين يقول له مداعبا و معزيا في آن واحد :
ـ مرحبا بك في عيادة سعفان البخيل لإنقاص الوزن
و لكن الحمار المتحول ( شادي ) لم يعبأ بكل ما تقدم سوى أنه وجم لحظة ثم تأمل ( كيف هذا رأيت الشيطان رأي العين و هو يلتقم قلب البخيل حتى زين له سرقتي ما هذه الصورة الحقيرة أعور كسيح و عيناه مشقوقتان بالطول و رأسه رأس الفيل الكبير و له قرنان و أنيابه خارجة كأنياب الخنزير و شفتاه كشفتي الثور منظر كئيب .. كيف يطيق الحمار رؤية هذا له الحق في أن ينهق هكذا حتى يصير صوته أنكر الأصوات لأنه يرى أنكر المخلوقات ) وفي هذه الأثناء صاح الحمار الأول منبها الحمار المتحول ( شادي ) :
ـ إيه إلى أين ذهبت
فانتبه الحمار المتحول ( شادي ) و أجابه مضطربا :
ـ نعم .. لا شيء
فأقبل عليه الحمار الثاني و قال له مداعبا و معزيا في آن واحد :
ـ مرحبا بك في عيادة سعفان البخيل لإنقاص الوزن
و هرول الكلب نحوه ثم بسط ذراعيه بساحته و قال مبتهجا :
ـ مرحبا بك صديقا لنا
فتبسم الحمار المتحول ( شادي ) و قد أسعدته هذه الحفاوة و هذا الإستقبال و أبدا موافقته على هذه الصداقة ثم قال للكلب مستفسرا :
ـ أراك تعشق الحمير
ـ نعم أعشقهم لأنهم لا يضلون الطريق
فتقدم الحمار الأول و أحجب الكلب عن الحمار المتحول ( شادي ) ثم قال متفاخر ا :
ـ بل لأننا من النخبة
ثم أردف متمما :
ـ فأنا جدي ممن ركب السفينة مع نبي الله نوح عليه السلام
و من ثم تقدم الحمار الثاني و أحجب الإثنين معا ثم قال متفاخرا :
ـ و أنا جدي هو حمار عزير عليه السلام
و جاء الكلب من خلفهم يلهث من تحت أقدامهم ليبرز هويته هو الأخر :
ـ و أنا جدي ...
لم يتم حيث أكمل له الحمار المتحول ( شادي ) ما أراد :
ـ هو صاحب أصحاب الكهف و الرقيم
فتجهم الكلب و أخذ يهز زيله للحظة كأنه يفكر ثم سأل مستوضحا :
ـ من الذي أطلعك على ذلك
فلم يجبه و ظل واجما تائها في أفكاره ... و أخيرا قال دون أن ينظر إليه :
ـ آه كل واحد منكم يبحث عن أصل يستظل به من حر هذه الدنيا و رمضاءها ... و أما .. أنا ...
ـ وأنت ماذا ؟
ثم أخذ الحمار المتحول ( شادي ) يسير ذهابا و إيابا في محله مضطربا و صمت قليلا ثم تمتم ثم نظر إليهم جميعا و تردد كأنه يريد كلاما فيمنعه شيء كالخجل ! ..
و أردف الكلب مستوضحا :
ـ و أنت ماذا ؟
فأجاب الحمار المتحول ( شادي ) في شيء من الخجل و التردد :
ـ و أما أنا فررت من أصلي و انسلخت منه
فتأمله الجميع بعين ملؤها الدهشة و الإستغراب ثم قطع الحمار الأول هذا التأمل و قال متعجبا :
ـ و ما الذي دعاك إلى هذا .. ؟
فاحمر وجه الحمار المتحول ( شادي ) قليلا لهذا السؤال الذي أحدث في نفسه وخزة غريبة فأراد أن يصارح أصدقاءه الجدد كما أراد أن يبوح بسره كي يتخلص من همه :
ـ أنا في الأصل إنسان
فرفع الحمار الثاني رأسه في حدة و قال وهو ينظر إليه نظرة تقريع :
ـ أتريد أن تسخر منا كما ...
فقاطعه الحمار الأول و قال مؤكدا :
ـ نحن لا نسخر من أحد .. و قد صدقناك القول فجدي ممن ركب السفينة مع نبي الله نوح عليه السلام و جده هو حمار عزير عليه السلام و جده هو صاحب أصحاب الكهف و الرقيم .. طالما النوع لم ينقرض فنحن من أعراقهم كما أن نوع البشر كله لآدم فنحن جميعنا لهؤلاء .
فصاح الحمار المتحول ( شادي ) قليلا :
ـ أنا لا أسخر منكم .. فأنا في الأصل إنسان جهل فجهل عليه و سخط فسخط عليه
فقال الكلب برفق :
ـ أتقصد أنك فعل بك كما فعل بأصحاب السبت
فلم يشأ الحمار المتحول ( شادي ) أن يجادلهم لا سيما لأنهم حيوانات و كأنه ندم على مصارحته إياهم ثم ضحك بصوت مرتفع متذكرا أن حوارهم ينم عن معرفة و إطلاع و أنهم أرقى كثيرا ممن كان يصادقهم فأصدقاءه في الماضي كانوا كالأنعام بل كانوا أضل سبيلا فغير في الحال مجرى الحديث :
ـ أريد الذهاب إلى صاحبي
ـ سعفان البخيل
فما كاد يسمع الحمار الأول هذه الكلمة حتى اهتز زيله و انتصبت أذناه و شب على حوافره و قال بصوت المتقرع :
ـ سعفان سارقه و ليس صاحبه
فتقدم الحمار الثاني بسخرية خفية :
ـ هذا هو الإنسان
فتبسم الحمار المتحول ( شادي ) ضاحكا ثم قال :
ـ ظالم لنفسه
ثم أردف متمما :
ـ و منه السابق إلى الخيرات و منه المقتصد
فالتفت إليه الحمار الثاني بقوة و قال :
ـ أتريد أن تهرب من هنا
ـ نعم
ـ ذروني أحطم هذا الباب
قال الحمار الثاني ذلك ثم تقهقر إلى الخلف عدة خطوات ثم انطلق بقوة نحو الباب فنطحه برأسه و كرر ذلك أكثر من مرة ثم صرخ متألما :
ـ آه .. آه .. رأسي .. رأسي تحطمت
و أخيرا اقترب الحمار الأول من الباب و أخذ يركله بقدميه الخلفيتين ثم لحق به الحمار الثاني و استمرا في ذلك حتى تحطم الباب و في هذه الأثناء قال الحمار الأول بلهجة فيها انتقام :
ـ هذا جزاء الكذب
فتهلل وجه الحمار المتحول ( شادي ) و ظهرت على شفتيه ابتسامه حاول إخفاءها و تكلف الظهور بمظهر المودع و قال في الحال :
ـ أشكركم يا أصدقاء فلقد منحتموني حريتي من جديد و أتعهد إليكم بأنني لن أنساكم أبدا
ثم قال مستطردا :
ـ سأظل بارا بكم كبر الإبن لأمه حيث منحته هي الأخرى حريته إذ لفظته من رحمها
و ظل الجميع مطأطأين الرؤوس حياءا و حزنا على فراقه في حين شق الكلب هذا الصمت بقوله ناصحا :
ـ أسرع يا صديقي و انطلق إلى حريتك قبل أن يأتي البخيل و يسلبها منك
و على الفور انطلق الحمار المتحول ( شادي ) نحو الفضاء حيث الحرية و لكنه وقف فجأة و التفت إلى أصدقاءه و قال مشفقا عليهم :
ـ و ماذا أنتم صانعون مع البخيل ؟
فأجابوه جميعا بصوت واحد :
ـ لا عليك .. فعلناها قبل ذلك مشاجرة .. و ليست كاليوم مناصرة
*** *** *** *** *** ***
و انطلق الحمار المتحول ( شادي ) نحو طريق عودته ليلتقي بالشيخ ليخبره بما أحاط به من أن حياته و هو حمار لا تختلف كثيرا عن حياته و هو إنسان بل كان و هو إنسان أضل سبيلا لأنه كان يمتلك إرادته و يستطيع أن يصنع بها ما يشاء و يستطيع أن يكون بها ما يريد فإرادة الإنسان هي صورته و أفعاله هي دابته التي يمتطيها لبلوغها فإن شاء كان حمارا أو شيء أقل منه و إن شاء كان إنسانا أو شيئا أعلى منه .
و في الطريق اشتد عليه الجوع فلم يجد شيئا يأكله سوى التراب فأكله مع البقل فمغلت معدته و أعياه الطريق حتى مر بجنازة فزع لها و ذهب ما به من مغل و لما فرغت الجنازة فإذا به أقبل مسرعا إلى القبر فجعل أذنه عليه كأنه يسمع ثم ولى هاربا ثم عاد إلى القبر فجعل أذنه عليه كأنه يسمع ثم ولى هاربا فعل ذلك مرة بعد أخري كأنه يتحرى شيئا حدث ثم وقف بعيدا بعيدا عن القبر محدثا نفسه :
ـ ما هذا .. إن الميت يطرق بمطراق من حديد و يصيح صيحة تتصدع منها الجبال ثم إني سمعت اختلاف أضلعه ممزوجا بصرخاته
ثم قال مستطردا بصوت مسموع :
ـ إنه يعذب في مضجعه .. سلم يا رب سلم ..
و انطلق إلى حيث التقى الشيخ أول مرة إلى شاطئ البحر فأقبل إلى المياه الرقراقة بوجهه فنظر فيها يتأملها فوجد صورته على صفحة الماء حمار رأسه كبيرة وأذناه طويلتان ففزع منها ثم التفت يمينه كأنه يعرض عنها فإذا به يلتقي الشيخ فيقول له الشيخ مبتسما :
ـ كيف حالك يا حمار
فتبسم الحمار المتحول ( شادي ) ضاحكا و قال مستبشرا :
ـ الحمد لله
ـ كيف أصبحت
ـ أصبحت كما ترى
ـ أتريد الحياة ؟
ـ نعم
و هنا دعا الشيخ ربه أن يعطي شادي مسألته فتحول شادي إلى صورته الحقيقية إنسان منتصب القامة فأسرع شادي و نظر إلى صفحة الماء ليجد نفسه فيها إنسان في أحسن صورة فتنهد ثم قال :
ـ الحمد لله
ثم مسح الشيخ على رأسه و قال له معلما :
ـ و قل كذلك .. اللهم كما حسنت خلقي أحسن خلقي
ثم استطردا الشيخ قائلا :
ـ ماذا تجد الآن
و عندئذ أخرج شادي من مخيلته كل الأشياء التي أثرت فيه أثناء رحلته و هو حمار حيث أنه أكد على أنه كان مغبون في حياته مغبون في أصدقاءه و اعترف بأن السبب الرئيسي لإنحراف حياته على هذا النحو هو نفسه التي طوعت له اتباع الشيطان و صحبة السوء التي أعانته على ذلك كما أوضح أنه رأى نفسه في صورة البخيل .. كذاب .. متعته في رغبته في الإمتلاك .. كما رأى الشيطان يغويها فتستجيب دون ابداء أدنى اعنراض كما أنه تيقن بأن بعد الموت إما نعيم و إما عذاب و أن حياته هي السبيل إلى ذلك فأعلن توبته .