سقط النصيف حين مرّ طيف شاعرها وهمس ملتاعاً:
- "بسيمياء، لا تتركيني للظلال."
لكني لم أجرؤ على الاعتراف له بأن الملك النعمان يحتجزها في غرفتها الوثيرة، تتلوى من الألم.
حلم بامتلاك جسدها الذي فتن لبّه، لكن روحها بقيت هائمة وراء الطيف، وهو يتتبع خليط العبير المبثوث على كل الجدران، فقد اعتادت بسيمياء أن تخلط الطيب والعنبر، وتأمرني أن أمرغ به عتبات القصر وجدرانه حين يمر الطيف؛ ليكون العطر كينونةً تهبه منحة الوجود ...
- حين سقط النصيف طار من قلبها خوف الوشاة، وأطلقت في فضاء الروح عشق الجمال، بعد أن تناهبت سيوف مليكك جسد شاعرها الوسيم، وجعلته أشلاء منثورة على الدروب. فصار طيفا أسيراً في قصرها يبحث عن خلاص.
فأنشد أنت ماشئت من القصيد ، وسأغني أنا ما شاء الغناء، فجسدها الملكي؛ ممهور بالسبي الأبدي لطيف لا يبرح ظله.
يا زياد ...
- حين سقط النصيف، أسقطك الهوى، غلبك حسنها، وطغت عليك هالة الوجد المهيب.
مليكك يتحرق لكلمات تبّرد لهيب قلبه المصلوب على خشبة حب مغدور، فماذا فعلت ماوية كما تسميها أنت، أو بسيمياء كما يحلو لملكك أن يدعوها، حين يضج به الشوق، ويفيض من جنبيه الشبق فيفحّ في أذنها معذباً باسمها القديم؟! تدير ظهرها لجموح رغبته وسطوة ملكه، بينما تصوغ كل صنوف غوايتها لشاعرها الشاب، تهيل عليه مطراً من فضة جسدها، خصرها موسيقى وخلخالها سرّ، ولسحرها خضع المفتون، فأوقدت عليه أتون الشغف.
أتظن الطيف يرى أو يحس؟!
هو حظك الملعون شاء أن تقع أسير فتنة عطرها، ونعومة أصابعها، حين التقطت طرف النصيف فعقدت فيه روحك حين عقدته وأصابت قلبك سهام اللحاظ.
فأي غواية حملتها لك ذرات الهواء التي تنبثق من طيبها
وأي جنون حملك لتكتب شعراً لم تسمع العرب مثله؟!
و أي شفق مدمّى بلون سماء الشوق يحملك لتطوف في حنايا قصرها ملتاعاً تلتقطك ظلال فتنتها؟!
وحين تصمت ألحاني وتستطيل حرقة صدري، فأصير انعكاس الظل في صورة إنسان لايملك إلا النحيب وبعض الغناء، تدعوني بصوتك المبحوح:
-" يا رؤبة إليّ ببعض ضوء من سراج يوقد في روحي الجمر حين أتمتم باسمها. نغّمي شعري وصوغيه لحناً نطق به مفتون مثلي. فطار في البلاد. "
أغني شعرك الممسوس بالعشق ، فيتماهى مع سحر صوتي الذي ماصدحت حنجرة بمثله.. فأي شغف يدفعني لأتتبع خطواتك على الدرب حين تسلكه على خطا عطرها. وأنا أتساءل:
من يلهث وراء من؟
تجيبني اللهفة، تحضرك موسوماً بذاك السحر المسبوك قصائد تنهلّ من صوتي، وتتحدر كسرب غزلان في صحراء رحلتك العطشى. أهيل على الكلمات وهجاً من تبر صوتي، غواية تكتنفها الأسماع، وتجعلها وشماً في الروح لايخطئ العطر والصوت واللحن الفريد. ويبرز السؤال من جديد
- أهو أنت؟!
- ومن أين لي ان أعرف أنه ظل شاعرها العاشق وليس أنت؟!
يهمس الطيف المأسور منتحباً:
- إليّ بصوت يكفن روحي وهي هائمة في شهقة من لحن أزلي السحر. أطلقي صوتك يا رؤبة، فظلي يحتضر، وروحي يحملها العبق إلى سر مطوي في جسد ماوية ، فأغنيه :
وهو يتمتم : أحرقني يا عشق ماوية ففيك تختزل كربتي.
أستذكر ساعة أسدلتُ الستارة، التي تفصل بين حجرتها الخلفية وبين بلاط الملك، ماوية منتشية بحضوره. ذاك الفتى، الشاعر واسع العينين، جهوري الصوت،عذب الألفاظ .
حين خرج من البلاط، وقف عند الممر المرصود. خرجت هي من غرفتها فتلاقيا وهبّ العبير...
سقط النصيف حينما مرّوا جميعاً، رفعت يدها تختبئ من عيون الناظرين، تتوارى وراءه خوفاً من اقتحام العيون لحرم الجمال الذي طوّبته باسم شاعرها المحبوب حين همس باسمها ، فبُهت، و على أعتاب سحرها طار صوابه وصوابك وصواب مليكك الأرقش، فمزق بسيف سلطانه جسد الفتى، وشرّدك أنت في البلاد.
-(كنت أظنها تقصدك يا زياد!)
هذا هو سريّ الملعون ...
في تلك الليلة حين كنت تستعد لهروبك الأخير، دخلت بسيمياء غرفتها وهمست لي:
- الملك سيكون ضيفي لهذه الليلة. قومي يارؤبة حضّريني.
قمتُ، غسلتُها بماء الورد ومشّطت فرعها بالزعفران، مسحت عن عينيها دموعها فهمست لي :
- لا أقوى على ذلك يارؤبة ....
لقد نزع روحي .
ضمختها بخليط المسك الذي يهيم النعمان بحبه...
ولا أدري أي يدٍ تلبست يدي فمزجته بسم زعاف.
أوقدت في المخدع شموعا معطرة بذاك السم، وجلست أنتظر مليكك وفاتنته لكي يتمرغا فيه .
لكن الملك ترك ماوية غارقة بالوجع، وخرج غاضباً من صدها الفجّ. وتلك نجاة.
" ستبقى أنت الشاهد يا زياد فاشحذ شعرك."
ولابأس أن اخترت الهرب إلى مجاهل الصحراء فتلك نجاة أيضاً.
أما العاشقان وحدهما من خانهما العطر.
وهاأنا وحدي على جمر دموعي أشرب كأسي المسموم حتى الثمالة.