أنبغ ما أنجب القرن العشرين في الفكر والأدب، عاشق الكتب، وعاشق الحياة، الذي قال لنا: أن حياة واحدة لا تكفيني، فعشق الكتاب، ليعيش أكثر من حياة، ليعيش بين دفتي كتاب حيوات مختلفة، عاش في الماضي والحاضر والمستقبل، كان له قلم حفر بسنه مجدا أدبيا، يصعب تكراره، وكان الأدب هو النافذة الكبرى، التي أطل منها إلى الحياة، في صورتها الكلية، ولم تحجبه عن معرفة باقي العوالم الأخرى، يلتمس الخلاصة، ومعرفة ماهية الوجود، والوصول إلى جوهرها، قرأ في كل شيء، ثم صاغ منهجا للحياة، أدرك من خلاله عمقها وأهدافها، كان ذو نظرة ثاقبة، ويدرك بعقله وحدسه ما يعجز الكثير عن إدراكه بالتقصي والحدث والجهد المتواصل، وإن كتاب تقرأه للعقاد يغنيك عن عشرات الكتب في مجلات مختلفة، حيث العلم والأدب والفن، إنه يتدفق حيث يكون، يكتب فيضع يديك وعقلك على خلاصة القول في المسالة التي يتناولها، ويطلعك على ما خفي منها، يستنطقها فتبوح له بما تكمن من أسرار، حين تقرأ له أنت أمام حشد هائل من فكر راسخ، وثقافة واسعة، فكتاب واحد هو عوالم كثيرة، وأفكار تغزو عقلك، ليتسع ويلهث وراء استدراك ما يرمي إليه، وتفتح لك أفاق واسعة الأطراف، تجعلك تنهل من فكره الضخم، وعقله الجبار، إنه جامعة كبيرة، عنده علم من كل فن وأدب، فقراءته ليست بالأمر الهين، إنما تحتاج إلى حشد لقواك الذهنية، حتى تستعيب ما يتولد من أفكار جمة، يحتاج القاريء إلى وعي خاص، وذاكرة قوية، وعقل يقظ، يحتاج أن يبذل مجهود ليشاركه رؤيته ومعرفته.
عاش العقاد بين الناس، ولكن وقع الأحداث على عقله وحواسه، تختلف عن الكثيرين من الناس، إذ تتكشف له أشياء تغيب عن الأكثرين، ولعل الجانب الخفي، هو الذي يكشف عن حقيقتها، التي قد لا تبدو للناظر، كانت حجته في القضايا التي يناقشها قوية مقنعة، وكانت لديه بديهة حاضرة لكل المواقف والأزمات، تنصفه أبدا، بديهة ناصعة، كان الرجل من الذكاء بمكان بحيث دائما ما يبدو في الجانب الأقوى، فكان سلاحه من قوة البديهة والذكاء ما تكن هي السد المنيع، التي تتكسر عليه الأراء الهاشة لخصومه، فسلاح العقل والفكر سلاح لا يضاه بغيره، فمن قرأ العقاد علم مدى قوة عقله وتفكيره، وتحليله للأمور والأحداث واستنباط ما قد تخلفه من أحداث أخرى، فهي عنده علامات وأرهاصات لأحداث أخرى، ونادرا ما يتوقع شيء ويأتي خلافا لظنه، فقد تقع أحداث تقول الوقائع والصور المرئية، عكس رؤيته، ولكن كان يرى منها الباطن، الذي على أساسه تكون الاحداث، وفي تراجمه الكثير من رؤيته الخاصة واستنباطاته المختلفة، وكان يعايش أحداث من يترجم له، بل لعله ينظر بعينه ويفكر بعقله، وينطق بلسانه، حلل النفوس كمن رأى وعايش، وأظهر منها الخفي قبل الجلي، قرأ النفوس والعقول والخلجات، وسطرها على الأوراق لحوم ودماء، تتحرك بيننا، وتحيا في كتبه، وتتنتقل آمام أعيننا، فهل كان العقاد منفرد في رؤيته وفي طريقته التي تناول بها موضوعاته وقضاياه، تراه وقد قلبها على وجوهها، ولم يترك جانبا من جوانبها حتى ألم بها، وناقش وحلل، وأستوفى منها كل ما تبدو عليه، وردها إلى أصولها، ثم حكم عليها حكم القاضي الأريب، الذي يفهم من قضاياه بواطنها وظواهرها، فهو يعلمها علم الخبير، علم دراية ورواية، فلا يخطيء حين يصدر أحكامه، نستطيع ان نقول إنه كان جامعة خاصة، لها منهجها الخاص وطريقتها الخاصة، وقوانينها التي لا تشترك بها مع أحد، فالواقع أن العقاد كان صرحا شامخا في كل ما يكتب، ولم يضيف للمكتبة العربية أوالقاريء العربي فقط، وإنما أضاف للإنسانية قاطبة فكرا وأدبا وعلما، كانت له بصمة خاصة، حباه الله بها وأختصه بها، فكانت علامةعليه، وسمة فيه، رحم الله الرجل بقدر ما بذل وأعطى من فرط قريحته النقية وعقله الجبار.