حتى رجعت وأقلامي قوائل لي المجد للسيف ليس المجد للقلم
أكتب بنا أبدا بعد الكتابة به فنحن في دولة الأسياف كالخدم
مات المتنبي في الخمسين من عمره، وقد ملأ الدنيا بأشعاره، يسير بها الركبان من أقاصي المشرق، إلى أقاصي المغرب، نال من الشهرة ما لم ينالها أحد من الشعراء قبله ولا بعده، وكان شعره يتقدم كل مناسبة من مناسبات الحياة، في الموت والرثاء والحرب والسلم والخطابة وغيرها من مُنتديات ومُجالسات، أعتصر النفوس، فخرج بذخيرة إنسانية كبيرة في مختلف مناحي الحياة، يلخصها في كلمات، تمتطي الرياح وتسابق الزمن، فتنتشر ويكتب لها القبول على الألسنة، وتعانقها الأرواح، وتتخذ منها النفوس مذهبا تجابه به متاعب الحياة، عاش المتنبي عمرا قصيرا، ولكن قريحته الشعرية أسفرت عن أعمار من التجارب، والحكم الخالدة، التي تكشف لنا عن حقيقة الحياة وفلسفتها، وما يعتريها، وما يصدر منها، وقف على جبل شاهق الإرتفاع، وأنشدنا من الكلمات أعمقها ومن الأبيات أحكمها، وقف على القمة وحده، بلا منازع، فتنحى من كان قبله، ليتخذ له عرش في عالم الأدب والشعر، ولم يجرؤ من جاء بعده، أن يتطاول في أن يزحزحه، ولو قيد أنمله عن مكانته، التي وصل إليها، فكتب لنفسه المجد وصار بموقعه، مجال نضال بين مؤيد ومعارض، وصار لوقع شعره غبار حروب ضروس، تثيرها الكلمة وتدهس تحت عجلاتها أرواح ونفوس بين منتصر ومهزوم، فكان كل بيت يقوله هو بيت القصيد، وكل قصيدة هي معزوفة تتناقلها الإسماع بالحفظ، والقلوب بالإعجاب، والعقول بالدراسة والفهم، والدهشة لسلاستها وإصابتها كبد الحقائق، في بساطة وجمال، جعل من ديوانه مكانة في كل عقل، وفي كل قلب، ولكل دارس ومتعلم وفي كل فن من فنون الحياة الكثيرة، كل هذا جعل منه نابغة الدهر، وشاعر العربية الأكبر وأسلموا له القيادة عن طواعية، فما من شاعر بلغ الذروة التي بلغها، وحافظ عليها مدى الأجيال منذ كان وإلى أبد الدهر.
صدأ السيف، وبقيت الكلمة خالدة، أقوى من السيوف والتروس، يشق بها الزمن، ويتخذ له قمة، عجز كثير من الملوك والأمراء وقواد الجيوش والملاحم، وكثير من صناع التاريخ في أن يصلوا إليها، بما شنوه من حروب وقتال ومعارك، انبسطت الأرض لهم ثم ضمتهم القبور، وأصبحوا في دائرة النسيان، أما هو فقد صنع بالكلمة، مجدا أدبي لا ينمحي ذكره، وينافس الزمن في بقائه، وانتصر بسنان قلمه، وأقام دولة تنافس أقوى الدول في البقاء، فقد زالت دول وعروش، وبقيت دولة المتنبي قائمة تنظر إلى ما صنعه السيف، وهو يزول ولم يبقى منه إلا ذكرى للتاريخ، وهي قائمة في مجدها.
هل أخطات أقلام المتنبي التقدير والحكم، وهو من أتحفنا بالكلمة والحكمة وتصاريف الأقدار، وإن السيوف تكسرت فوق سنون الأقلام، وبقيت الكلمة تعتلي المجد باقية، فحتى هؤلاء الذين نتذكرهم، فقد خلدهم القلم، ولولاه لما كان لهم ذكر، خلد بشعره سيف الدولة، ولولا شعره لنهال عليه التراب، ولم يذكره إلا المتخصصين من كتاب التاريخ، لم يخلده المجد والحروب والانتصارات، كما خلدته كلمات المتنبي وأبياته، كان السيف هو التابع وهو المقود، وكان للقلم الكلمة العليا، فيمن يمجد ويخلد، بل إن قلم المتنبي صنع مجدا لعصره كله، وجعل للأدب والشعر مكانته، التي تسعى العصور لتأتم به، وتجتهد في الوصول إلى مكانته، التي حققها، فكانت كلمة التاريخ أن السيف أمام القلم ضعيف، وأن الذي يعلي من قدره، ويحط منه إنما هي الكلمة، التي يخطها القلم من قرائح العباقرة، وما يُلقي به القلم من أحبار على صفحات التاريخ، لتصنعه وتتحكم في حركته، وترسم خطاها، ولا شيء يستطيع أن يقف أمام قوة الكلمة، ولو كانت آلاف السيوف، أو حتى ملايين السيوف، فهي تأتي أمام الكلمة لترفع الراية البيضاء، وتتنازل راغمة؛ لتفسح للقلم، ليجلس على عرش الحياة حاكما وقاضيا بلا منازع.