بقايا امرأة
فإذا عاد أخر المساء, فكل ما يعرفه أن يزف إلي أخبار الناس كل ليلة, وبلا ضجر من تكرار ما يعيد علي سماعي كل يوم, وحين كان يقترب مني يقع علي كجلف قروي, حيوان يسيل لعابه, يفترسني كما يفترس حيوان فريستة, وينقض عليها, فإذا أفرغ, تكوم معطيني ظهره, وأخذ يغط في سبات عميق, أأكون رخيصة إلى هذا الحد؟ أي شعور ينتابني, أظنه شعور المهانة, الذي يتغلغل في أعماقي لأموت كل ليلة, حاولت أن أرضي نفسي, فلا مهانة في الأمر, فالكل يفعل, لكن ليس لهم شعور مثل شعوري, ولا يفكرون فيما أفكر, ولا يخطر بقلوبهم ما يخطر بقلبي, كانت الأيام بعد ذلك كفيلة بأن تجعل بيننا سدودا عميقة, وتراكمات لا تنتهي, فلا هم يستطيعون أن يغيروا من أنفسهم, ولا أنا أستطيع أن ألغي عقلي ووجودي, لأنساق خلفهم بلا بصيرة ترشدني وتلهمني وتضيء لي الطريق, ولو حاولت لفشلت, فالهوة تتسع بيني وبينهم من ناحية, وبيني وبين زوجي من ناحية أخر, ذهبت غاضبة لبيت أهلي مرات وكانوا يضغطون علي, ويعنفوني دائما على أشياء لا حيلة لي في تركها, والتغاضي عنها, لأنهم لا يعرفونها, ولم يسمعوا بها من قبل, وتأزمت الأمور, وطالت فترات الغضب, حاولت مراراً أن أتأقلم مع حياتهم, لكنني لا أستطيع, فحياتهم تسير على وتيرة خانقة, تقتل في الإنسان كل شعور, كل شيء جميل, وتجعل منه ألة يدور في فلكها, لا يتعداها, طاحونة تدور ليل نهار حول الكلأ والماء, كأنهم لا يؤمنون إلا بالجسد, حتى في صلاتهم إنما ليجعلوا لأنفسهم رصيد أكبر من المتعة, ومن النساء والطعام والشراب, كأن لا أرواح لهم, ولا قيمة لها ولا وزن, وإنما هي جسر لمتعة أكبر, كأنك تحيا بين كم هائل من اللحوم والشحوم, فلا معنى للحب, إلا أن يكون طريقا, لإطفاء لهيب الجسد, أحلامهم ضحلة, خيالهم مريض, بضاعتهم رخيصة.
هل نحن عجول تُعلف؟ فلا يعنينا من الحياة سوى طيب الغداء؟ دجاجات في البيت يسمنونها؛ ليلتهموها أخر المساء, كنت أجلس وسطهم غريبة لا أتكلم, فأنا لا أجيد أحاديثهم, لم أعتد أن أتدخل في أمور الناس, ولماذا أحشر أنفي في حياتهم, ثم أني أرفض في أن يتدخل الناس في حياتي, فإذا جاء زوجي أخر النهار, تحلقنا حول مائدة الطعام, أذكر أنه قال لي مرة بأني غريبة الأطوار, وأنني أتعالى عليهم, وأني لا أعيره شأنا أو أهمية, ويجد مني نفورا حين يحدثني, وأزمعت أمري على الفراق, فلن أستطيع أن أواصل, ولن نلتقي أبدا في طريق واحد, أيام طوال للوصول لجذور الخلل, عبث يخلفه عبث, حتى تصل الأمور بين الزوجين إلى الطلاق, بعد جلسات وجلسات, في محاولات مستميتة للعدول عن أشياء, هي في الأصل خطأ, لكل امرأة متزوجة, أن يكون لها بيت على حدا, تستشعر فيه حريتها في بيتها, تكون فيه ملكة البيت, أفي ذلك شيء غير طبيعي, كانت جلسات الصلح التي لا أول لها ولا أخر, أحاديث جوفاء من هنا ومن هناك, كنت في دوامة من الآف الخيوط التي كانت تلتف حول عنقي, وأنا لا أدري, أشياء هزيلة, قد تكاثرت حتى أصبحت كالشباك أوقعوني في براثنها, كنت فتاة لا خبرة لي بمكرهم ودهائهم, لا تجارب ولا خبرة حياتية, فلم أكن أجيد المكر والدهاء, صبية في بداية حياتها, والتي زُجت فيها بغير إرادتها, أستغربت الكثير مما قيل عني, وعرفت أن للناس في قرانا وجوه كثيرة لا وجه واحد, ولم أكن أعرف, بأنني بهذا السوء في نظرهم, لأني فقط أردت أن أحيا كإنسان, بعد عام من الشد والجذب والنزاع المفتعل, والغير مفتعل, عدت إلى بيت أهلي, والحمد لله لم أنجب, حتى لا يكون هناك ضحية, عدت وقد أمتلأت بالخراب وكان أملي في الأمور أنها سوف تتحسن, فلست أول من فشل في زواج ولن أكون الأخيرة, وسوف تمر المحنة ولسوف أنسى, ويكفيني ما اكتسبت من تجارب, وأن أبدأ طريقي من جديد, خرجت من بيت أبي طفلة, فرضوا عليها الزواج, وأعود وأنا بقايا امرأة ولكنني أحمل لقباً جديداً, ويا له من لقب لم أكن أدرك خطورة ما عدت به, ولا لعنته, في قرانا البائسة الظالمة, فهم يختالون الطفولة بأيديهم الآثمة, ثم يرمونها بأبشع ما تتفوه به ألسنتهم السامة, كسروني رغم أنفي, أغتالوا مهجتي وأفراحي وضحكاتي وقلبي, فلم يبقى مني إلا القليل أعيش به من بقايا الروح المتمردة, وبقايا نفس مهدمة, لعلي أنجح في ترميم واسترداد ما فقدت, أو تعوضني الأيام ما سلبوه بالرغم مني, فالطلاق في قرانا معناه النبذ والجفاء, وأحاديث لا تنقطع ولا تحصى, وأني أصبحت لقمة سائغة في أفواههم, فالمرأة التي تنفصل عن زوجها, لاحظ لها في حياة طبيعية, بعد أن فقدت عذريتها, هي أشبه بجرثومة, يخشاها الجميع مخافة العدوى, الكل يفر منها لأنها أصبحت نذير شؤم.