وصمة
أربعة جدران ونافذة صغيرة, تسمح لأشعة الشمس أن توقظني كل صباح, حجرتي في أخر البيت, التي طالما رأيتها عالماً واسعاً, جنتي الصغرى أتاملها الآن, وبعد عام أراها قبر ضيق, ماذا تحمل لي الأيام, لم أفعل شيء أستحق عليه أن أُقبر, وأنا على قيد الحياة, لم أكمل الثامنة عشر بعد, وتلفظني الحياة بهذا الشكل, بهذه القسوة, بعد أن دللتني وحملتني, وحلقت بي بأجنحتها في السماء, والكل يتطلع إلي, كنت أعيش أميرة, بل ملكة من ملكات الأساطير, وها أنا أعود إلى حجرتي من جديد, أسترجع ذكرياتي, وأحلام طفولتي الأولى, أعود بقلب غير القلب, وبنفس غير النفس, أحاول أن ألملم ما تناثر مني في عام كامل, كان كأنه ألف عام, هذا مكتبي الذي هجرته, وكتبي التي علاها التراب, عروستي التي كنت أداعبها بعد الإنتهاء من قراءتي, عالمي الصغير الكبير, كم كنت أحبه وأن أظل فيه, جدران حجرتي التي كان طلائها الزاهي يبهر العيون, أراها وقد أتشحت بالسواد, حزينة جدرانها تنزف, وقد جعلوها مرتع للأشياء المهملة تغيرت ملامحها كثيراً بعد أن فارقتها, أتراها شعرت بالأسف, إن كثير من البشر ممن لهم قلوب لا يشعرون به, ولا يحسون له وقعا في حياتهم, وترى وقد أمتدت القسوة فيهم إلى حد بعيد, ضاربة في أعماقهم لتحيلهم إلى جمادات متحركة, وما تلك الأنفاس التي تتردد في صدورهم, إلا هواء, ليس أشر من أن يجرد الإنسان نفسه, من عقل ميزه الله به, ويلبس جلد خنزير ويمارس حياته كإنسان.
دخلت أمي علي, وجدتني جالسة على مكتبي الصغير, واضعة رأسي فوقه, وتنهمر من عيني الدموع لما أصابني, وأنا في مقتبل العمر, وقد صفعتني الحياة صفعات مؤلمة, ولكن قدر الله وما شاء فعل, وضعت أمي يديها فوق ظهري, تشد من أزري, وتحاول أن تنسيني خيبتي وفشلي كما يقولون, نظرت في وجهها, وقد أختصر لي فواجعي والآمي, ووجدت في عينيها حزناً, لم أرى مثله في حياتي, كمُ عظيم من القهر والهم والغم, دُهشت لنظراتها وتقاطيب وجهها, شعرت حين نظرت إليها بهول ما فعلت, كأن وجه أمي أعلم بمأساتي, التي كانت تعلمه وتتوقعه, وكنت أجهله جهلاً تاماً, مرت أسابيع وشعوري بالغربة يزداد ويتسع كل يوم, ظناً مني أنني لم أتغير فلماذا تغير الكل من حولي؟ تغيرت الحياة كلها, الوجوه التي ألفتها وأعرفها جيداً, الأهل والأقارب والجيران, أصدقاء الطفولة, أبناء العمومة, الشارع, كل شيء تغير, ما السبب؟ لماذا لا أدري؟ كيف تحولت وتبدلت؟ وبعد مرور وقت قصير,علمت أنهم لم يتغيروا وأن هذه وجوههم الحقيقة, وأن الذي تغير هو أنا, قد وصمت بأني امرأة مطلقة, ولا أدري هل كان الطلاق سُبة؟ عار يلحق بنا, ولماذا أحله الله إذن؟ ووصمتوه أنتم بالجرائم والعار, علمت حين ذلك نظرة أمي التي لم أستطع تفسيرها, عندما دخلت علي, وكلها انكسار وألم.
قالت لي أمي, وقد مالت قليلا برأسها على أذني, فكل ما يتعرض له الناس, فإنما هو فعل السحر والأعمال, التي تدسها أيدي الأشرار من الناس , والحسد والأحقاد التي تملأ قلوبهم, وأنت تعلمين أن الحسد مذكور في القرآن, ولا أدري على أي شيء يحسد, ويحقد بعضهم بعضا, إنهم من الفقر والجهل بمكان, فهو يدب في كل زاوية, وفي كل ركن من أركان حياتهم البائسة, فالتي لم تلد مسحورة وعملها بعدم الإنجاب, ومن فاتها قطار الزواج تخطت عملاً بوقف الحال, والمطلقة أصبتها العين, والمريضة, والخالي من العمل, إذا عَثَر قدم طفل صغير في حجر, كل شيء سيء يعود الى السحر وأعماله, قالت لي أمي: لابد أن نذهب إلى الشيخ, ليقرأ عليك, لعل واحدة من هؤلاء الحاسدات صنعت لك عملاً بالخراب لبيتك وتطليقك, ولابد أنني خطيت العمل أو شربته دون وعي مني, ولا أدري كيف يوفقون بإيمانهم بالقضاء والقدر, فالأبناء هبة من الله يرزق من يشاء, والزواج قسمة ونصيب, وكل شيء مكتوب, ثم هم يؤمنون بهذه السخافات, التي تناقض ما يؤمنون به, كيف يكون النصيب من الله, وكيف يتحكم في تغييره بشر بأعمالهم, أخذتني أمي من يدي, ولم يعد بي طاقة لأجادل وأناقش, لأناس لا يحترمون صوت العقل, مشيت معها مستسلمة لأرضيها, وأعفي نفسي من أشياء لا جدوى منها, دخلنا على الشيخ, كان رجل تخطى الخمسين, ذو لحية كثيفة, لا يبدو أنه يهذبها أبداً, عينيه غائرتين, وصوت أجش خشن, يجلس على حصيرة قديمة, وخلفه وسادة, وعلى رأسه عمامة بيضاء, متجهم الوجه, ولم يكن هناك موقد, ولا رائحة للبخور تعبق المكان كما تخيلت, في يديه سبحة صغيرة يحركها بلا وعي لما يقول, أجلسني في مواجهته, واضعاً يده على رأسي, وقد طأطأها قليلاً, وأخذ يتلو من القرآن أيات, يحفظها ويرددها كأنما أنحفرت في ذاكرته من كثرة ترديدها, ولعلي لو سألته عن معاني بعض الكلمات التي طرأت لذهني معرفتها, أظنه لن يجيب, أو يجيب بما طرأ على ذهنه, لا عن علم وفهم, ولا ترى عليه ملامح العلم والنجابة, ولعله إلى الساذجة أقرب, فهو لا يملك إلا لحية وبعض آيات حفظها من كثرة ترديدها, ولم يكن هناك أي شعور داخَلني, سوى بالملل من طول الوقت الذي أستغرقه في القراءة, ساعة أو يزيد حتى أجهدني, وآلمتني رقبتي من قلة الحركة, وكأنها تصلبت, يقرأ ما يعيد ويعيد ما يقرأ, ولم أحتمل, فبكيت مما يحدث لي, وظن الشيخ أن بكائي نتيجة لبس كما يدعي, وأطلق الشيخ حكمه بوجود عمل, صنعته امرأة حقود رغبةً في طلاقي, لأنها كانت تريد زواج ابنتها من زوجي قبل أن يتزوجني, وهو يعرف المرأة التي صنعته, ويعرف ابنتها, لقد أخبره التابع بهما, ويعرف زوجها, ولكنه لم يشترك معهما فيما فعلاه, ولكنه بالطبع لا يستطيع البوح باسميهما, وأنه سيبطله, وأعطاني قارورة بها ماء, قرأ عليها, لا أدري إنما هي همهمات وكلمات غير مفهومة, وقال لي: لابد أن اشرب منها, واستحم بالباقي, وأواظب على الصلاة, ثم نعود إليه بعد شهر, وأخرجت أمي بعض المال للشيخ, ليقوم هو أيضا بإبطاله من ناحيته, ولم يخفى علي نظرة الشيخ, والتي كلها جوع, والتي كادت أن تفترس وجهي وجسدي, وحركة يديه التي كانت تدور حول رأسي ووجهي, وهو يقرأ, ولولا أمي, أظنها كانت لتمتد إلى أبعد من ذلك, ويبدو أنه هيأ في خاطره الطريقة التي ينفرد بي, طمعاً في إشباع نهم جسده المهتاج, من هذا اللحم المستباح في نظره, وأسر لأمي بشيء, ثم عدنا إلى البيت بعد هذه الرحلة المباركة للشيخ. أمرتني أمي بأن أفعل ما أمرني به الشيخ, دخلت الحمام وألقيت بالماء في الحمام, واستحممت بماء دافيء وخرجت اطمأن أمي.