كثيرا ماتصاب المرأة ذات الزوج بمرض يسقط شعرها ، أو يحدث ذلك لتوالي الحمل والإرضاع عليها ، فتستفتي هل يباح لها وصل شعرها ، أو ارتداء الباروكة لاستشعارها الحرج من الظهور بحالتها هذه أمام زوجها ؟
فتأتيها الفتوى بالتحريم لهذا الحديث الآنف الذكر.
وقد تتعرض بعض الفتيات لهذه المشكلة نفسها لسبب أو لآخر ، فيستشعرن الحرج حال الظهور أمام آبائهن أو إخوتهن الذكور أو محارمهن بشكل عام ، وحين يستفتين تكون الإجابة بالتحريم كذلك .
بل إن المرأة بشكل عام لتتأزم نفسيتها حقيقة بمجرد رؤية نفسها أمام المرآة وقد خف شعرها أو كاد أن يسقط ، أو لكونها ذات شعر مجعد مثلا ، أو لكونه لاينمو ، فتحب أن ترتدي الباروكة لتحسين هيأتها حتى ولو أمام نفسها ، ولكن الفتوى تأتيها بالتحريم كذلك.
ولاأدري ماوجه هذا الحكم بالتحريم في هذه الحالات المذكورة جميعها ، والله تعالى ماجعل في دينه من حرج !!
فالذي لايعلمه الكثيرون منا أن المتفق عليه في الحرمة ، هو وصل شعر المرأة بشعر امرأة أخرى ، أو بإنسان آخر بشكل عام بهدف تغيير خلق الله، لأن تمام الحديث " لعن الله الواصلة والمستوصلة ، والنامصة والمتنمصة والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله "
أما أن تصل المرأة شعرها بخطوط حريرية مثلا ، فقد أجازه جمهور فقهاء الحنفية وكذا الشافعية ، ولكنهم اشترطوا أن تكون الواصلة ذات زوج ، وقد أذن لها زوجها بذلك.
وأما الباروكة ، فهذه مختلف فيها بين الفقهاء ، فأكثرهم حرمها قولا واحدا ، والمتأخرون من فقهاء المالكية لايحرمونها ، لكونها توضع على الرأس وليست وصلا.
[وأنبه هنا إلى أن الفقهاء الذين أباحوا وصل شعر المرأة بخيوط حريرية أو لبسها الباروكة ، إنما يتحدثون عن المرأة داخل بيتها ، وليس خارجه ، لأن المرأة خارج بيتها يجب أن تكون ملتزمة بغطاء الرأس باتفاق الجميع قولا واحدا ]
وممن أفتى بحل الباروكة للمرأة من المعاصرين ، الفقيه ابن عاشور رحمه الله - رأس المدرسة المقاصدية في العصر الحديث - وبشرط أن يكون القصد شريفا ، بمعنى أن ينتفي عن المرأة قصد إرادة التبرج خارج البيت أو قصد التدليس على الغير ، وهذا معناه أن تقتصر الإباحة على التزين للزوج أو أمام المحارم ، أو للنفس نفيا للحرج حال سقوط شعر المرأة ،أو عدم نموه أو حتى لزينتها لخاصة نفسها .
بل يرى رحمه الله : أن النهي عن وصل الشعر في الحديث الآنف الذكر ، إنما مرده إلى عرف المجتمع آنذاك ، حيث كان الناس يرتابون فيمن تفعل ذلك ، ويرونه أمارة على ضعف حصانتها.
فالنهي هنا ليس للفعل في حد ذاته ، وإنما لكونه يفضي إلى سوء الظن بالفاعلة أو تعرضها لقالة السوء مثلا .
ثم يضيف "وكذلك أخطأ بعض المتقدمين من الفقهاء في حكم وصل الشعر للمرأة ذات الزوج ، وتفليج أسنانها وتهذيب حواجبها ، فجعل في ذلك من التغليظ في الإثم ماينافي سماحة الاسلام ، تمسكا بظاهر أثر يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( يقصد طبعا الحديث الآنف الذكر ).
ينظر : فتاوى ابن عاشور ص ٣٥٢ مركز جمعة الماجد ، دبي
حقيقة ، كلام ابن عاشور هذا جدير بالعناية والتأمل ، فالتغليظ في الإثم يجب أن يكون مترتبا على غلظ الفعل ، إذ لايعقل أن تتساوى الصغائرفي عقوبتها بالكبائر ، وماهو محرم لغيره لايعقل أن يتساوى في عقوبته والحكم على فاعله بالمحرم لذاته .
فنظر الرجل مثلا إلى المرأة الأجنبية عنه بشهوة ، كل الفقهاء على حرمته ، لكونه قد يفضي إلى الوقوع في الزنا ، فهو محرم لغيره ، ومن ثم لايمكن أن يتساوى بالفعل ذاته الذي هو الزنا ، لا من حيث الجرم ، ولا من حيث الأثر المترتب عليه في الدنيا أو في الآخرة .
بل إن ارتباط العقوبة بقدر الجرم، تكبر بكبره وتصغر بصغره ، هذا مبدأ قانوني حديث ، وهو مستقى من شريعتنا ، لكونه مبدءا إنسانيا عادلا ، ومعقولا في الوقت نفسه .
ومادون ذلك من الصغائر التي صعدها بعض الفقهاء بما رتبوا عليها من إثم إلى درجة الكبائر ، وكأنها هي الفجور نفسه ، يجب النظر إليها في ضوء هذا المبدأ الذي قرره الفقيه ابن عاشور رحمه الله تعالى .
بل إنه حين تصدر الأحكام الفقهية متساوية بين من تفعل فعلا من قبيل الزينة غير البريئة ، ولها قصد في أن تلفت أنظار الرجال إليها ، وبين من تفعل ذلك الفعل نفسه نفيا للحرج والضيق والتأذي عن نفسها ، وتكون العقوبة المترتبة على الصنيعين واحدة ، فكلتاهما في النار ولافارق …
حين تخرج الفتوى هكذا ، فهذا يعني أننا أمام مدع للفتوى والفقه ،ولاحظ له منهما لافي قليل ولا في كثير .
كما لايجب أن يفوتني هنا أن أضع عدة خطوط تحت قول ابن عاشور " وتهذيب حواجبها " يقصد رحمه - بل وأكثر الفقهاء على ذلك- أن هناك قدرا من تجميل الحواجب مباح ، وهو يقتصر على التهذيب فقط ولايتعداه ، فلا تغيير لأصل خلقة الحاجب مطلقا لابنمص ولابقص ولا بتزجيج - ترقيق في كثافته- فضلا عن نزعه كاملا ثم استبداله بخطوط ثابتة، أو غير ثابتة ، فكل ذلك محرم لهذا الحديث المتفق عليه .
وقد تتفاوت درجة التحريم مابين مسلك وآخر ، فمن تزجج الحاجب ليست كمن تنتزعه من أصله، وهكذا .
والخلاصة هي أن القصد والباعث على التصرفات ، يجب أن يكون له أثره في رؤبة الفقيه قبل استصدار الفتوى أو الحكم الفقهي ، فالأحكام تناط بعللها ومقاصدها كما قرر الأصوليون ، وتجريد الحكم من علته إنما هو صنيع القاصرين والسطحيين ممن يتمسكون بالظواهر ، فيصدرون للناس فتاوى توقعهم في الحرج ، وهذا هو فارق مابين الفقيه المقاصدي وغير المقاصدي .
فمن المحال أن يكون التوعد باللعن الوارد في الحديث ، والذي يعني الطرد من رحمة الله تعالى - متعلقا بمن يصلن شعورهن في المطلق ، ولو بهدف رفع الحرج والضيق عن أنفسهن داخل بيوتهن ، وأمام أزواجهن أو محارمهن لأسباب تستدعي ذلك ، مما قد يصل إلى درجة الضرورة ، أو الحاجة التي تنزل منزلتها ….
أين نحن إذن من هذه الآيات :
"إن ربي لغفور رحيم "
" إنه هو البر الرحيم "
" وماجعل عليكم في الدين من حرج "
فليتنح عن الفتوى كل مدع للفقه ، ولاعلم له بمناهج الاستنباط القائمة على النظر المقاصدي ، لأن جنابة مثل هؤلاء على الدين أعظم ممن طبب الناس - مارس مهنة الطب - على اختلاف عللهم دون أن يدري ماالطب ، وإنما تقليدا لمن سبقه فقط ، على حد تعبير ابن القيم رحمه الله تعالى .