قول الإمام أبي حنيفة والشافعي في القديم ، وابن حزم الظاهري بوجوب نفقة الزوجة على زوجها بعقد النكاح :
أقول :
هذا الرأي أعتبره من الكنوز المخفية في تراثنا ،شأن مالايحصى من الآراء ذات النزعة الإنسانية الفطرية تجاه المرأة ،
فالمشهور المعلن ، بل والمفتى به فقها وقضاء : أن نفقة الزوجة على زوجها إنما تجب بالدخول ، بل وينقل هذا الرأي على أنه هو قول عامة أهل العلم، ولامخالف له من الفقهاء لاقديما ولاحديثا ، في الوقت الذي حجب فيه الرأي الآنف ذكره عن الإمامين أبي حنيفة والشافعي في القديم ، وكذا المذهب الظاهري وإمامه ابن حزم ، بل وعد شاذا ومهجورا .
-ومحل الخلاف بين الرأيين : أن هؤلاء الأئمة القائلين بوجوب النفقة بالعقد ، يرون أن المعقود عليها صارت زوجة بمجرد العقد ، حتى وإن مكثت في بيت أبيها لسنوات ، وعليه فتجب لها النفقة كالمدخول بها تماما ولافرق .
- أما أصحاب الرأي الآخر فيرون أن النفقة إنما تجب بتحقق الدخول ، ومايستلزمه ذلك من تسليم الزوجة نفسها للزوج واحتباسها لحقه في بيت الزوجية - يعني عدم خروجها منه إلا لحاجة وبإذن الزوج - قالوا : وعليه ، فتسقط نفقة الصغيرة التي لاتصلح لتمكين زوجها منها ، والمحبوسة ولو ظلما لفوات حق الاستمتاع للزوج .."
-وشرط الاحتباس في منزل الزوجية هذا ، هو الشرط الأهم عند متأخري الحنفية لاستحقاق الزوجة للنفقة ، وعليه فكل مايحول دون احتباسها في منزل الزوجية لحق الزوج ، كاشتغالها بعمل يستلزم سفرها أو تغيبها بصفة متكررة ، فإنه يسقط النفقة عندهم .
-كما اشترط أصحاب هذا الرأي شرط الطاعة لاستحقاق الزوجة للنفقة ، فلا نفقة لناشز اتفاقا، على خلاف بينهم وتفصيل في حد النشوز المسقط للنفقة .
وهذا القول نسبه ابن قدامة إلى عامة أهل العلم وأضاف إليه سقوط حق (السكنى ) كذلك ، قال " فمتى امتنعت عن فراشه ، أو خرجت من منزلها دون إذنه ، أو امتنعت من الانتقال معه إلى مسكن مثلها ، أو من السفر معه ، فلا نفقة لها ولاسكنى ، في قول عامة أهل العلم "
يراجع : المغني ١١/ ٢٨١،
-كما نجد تشددا كبيرا من جانب هؤلاء الفقهاء -وهم يتحدثون عن مسوغات استحقاق الزوجة للنفقة -في مسألة خروجها من بيتها دون إذن الزوج ، قالوا : لايجوز ولو لضرورة قاهرة ، كموت أبيها مثلا مادام زوجها لم يأذن لها، فإن خرجت سقطت نفقتها ، مستندين في ذلك إلى حديث موضوع مكذوب ، مفاده أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لزوجة سافر زوجها ، في أن تخرج من بيتها لتمريض أبيها الذي يسكن أسفلها في المنزل نفسه ، ثم لما مات استأذنته صلى الله عليه وسلم في أن تذهب لتوديعه فلم يأذن ، لكون زوجها غائبا ، ولم يأذن لها قبل سفره بالخروج طوال فترة غيبته .
حقيقة ، منتهى القسوة والعنت والحرج ، وحاشاه صلى الله عليه وسلم الذي هو بالمؤمنين رءوف رحيم ، أن يصدر عنه هذا الحكم تجاه امرأة تعاني مثل هذا الظرف الإنساني الحرج !!!
-وبالرجوع إلى الآيات التي تحدثت بشأن نفقة الزوجة ، نجدها تتحدث بلغة الوجوب والإلزام ، ودون تعليل صريح أو غير صريح بشيء مما علل به هؤلاء الفقهاء وجوب النفقة- تسليم نفسها للزوج ، والاحتباس لحقه ، والتزامها الطاعة - اللهم إلا حديثا بما يشبه الوصية بعدم التقتير على الزوجات ، ودون تحديد لمقدار أعلى ولاأدنى للنفقة .
نحو قوله تعالى قال " لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله "
وقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف "
-فإذا يممنا وجهنا شطر السنة الصحيحة فإننا لانجد حديثا واحدا -يعتد به - يعلل نفقة الزوجة بهذه العلل الثلاث ،بل ولانجد كذلك حديثا واحدا يوجه الأزواج إلى حبس الزوجات في البيوت للخدمة والاستمتاع مقابل النفقة .
-بل إننا على العكس من ذلك ، نجده صلى الله عليه وسلم -وفي مقام بيان وتعليم - يتوجه إلى جماعة النساء يبصرهن بحقوقهن - يقول وفي وضوح شديد لايحتمل التعليل ولاالتأويل :
" قد أذن الله لكن أن تخرجن لحوائجكن " هكذا دون تحديد لنوع الخروج أو وقته أو مدته أو نحو ذلك ،.
فكل ذلك متروك للفطرة والطباع السليمة ، وأيضا لطبيعة الاجتماع الإنساني والعلاقات داخل الأسرة والمجتمع ، ودون ضرر أو ضرار.
أي إن هذه المسألة تخضع للشأن الحياتي الاجتماعي الإنساني ، يدير الزوجان أمرها حسب مايريانه يصب في مصلحة البيت والأسرة والأبناء داخلها .
-ويمكن ببساطة الرد على من يعقدون هذه العلاقة التلازمية بين نفقة الزوجة وتلك العلل السابق ذكرها - التسليم - الاحتباس - الطاعة - ، فنقول لهم ، ولماذا إذن تجب النفقة للمعتدات من طلاق ، وهن لاتتحقق فيهن هذه العلل الثلاث؟
-هذا مما يجعلنا نقدر لأبي حنيفة والشافعي في القديم وابن حزم -ابن البيئة الاندلسية ذات الحضارة والظرف والرقي - قولهم بوجوب نفقة الزوجة بالعقد ، لاسيما وأن الناس في بيئتنا المصرية قد درجوا الآن على إجراء عقد الزواج ربما ليلة الزفاف أو قبلها بقليل ، تحاشيا لكثير من المشكلات ، فلا فاصل إذن بين إجراء العقد والدخول ، يستدعي إعلاء شأن هذا الرأي المفتى به على حساب الرأي الآخر واتهامه بالشذوذ .
-وفي توضيح لرأيه وانتصار يقول ابن حزم رحمه الله " ويجب على الرجل أن ينفق على زوجته من حين يعقد عليها ، دعا إلى البناء أو لم يدع ، مطيعة كانت أو ناشزة ، غنية أو فقيرة ، ذات أب كانت أو يتيمة ، بكرا كانت أم ثيبا، على قدر ماله …، لقوله تعالى " وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"
-ثم يتحامل تحاملا شديدا على غيره من الفقهاء الذين ربطوا بين النفقة وتلك العلل الثلاث الآنف ذكرها ، فيقول " وهذا قول لم يأت به قر آن ولاسنة ولاقول صاحب - أي : صحابي - ولاقياس ولارأي له وجه ، ولاشك في أن الله تعالى لو أراد استثناء الصغيرة - لكونها لاتصلح لتمكين زوجها منها - ومثلها الناشز ، لما أغفل ذلك حتى يبينه للناس ، حاش لله من ذلك …"
يراجع : المحلى ٨٨/١٠ ط دار الآفاق الجديدة .
-ومحل مؤاخذتنا على من قال من الفقهاء بوجوب النفقة بالدخول ، ليس في قولهم هذا تحديدا ، فهذا هو اجتهادهم ومنتهى نظر عقولهم ، وإنما يتركز اعتراضنا في هذه العلل الثلاث التي عللوا بها لوجوب النفقة ، وهي التي لم يأت بها نص من قرآن ولاسنة صحيحة كما قال ابن حزم ، وإنما يعكس ثقافة عصرهم وبيئاتهم ، ووضعية المرأة في تلك البيئات الساذجة ليس إلا ، وقد غدا الآن غير مقبول ، بل وممجوج مع تطور حال المرأة في عصرنا ، ومن الخطأ البين شرعنته وإلباسه لباس الدين ، أو وصفه بالشرعي .
-إنه رأي فقهي لم يناسب عقل ولابيئة فقيه كابن حزم الظاهري ، وهي البيئة الأكثر تمدنا ورقيا في نظرتها للمرأة وقتذاك ، فهجره وخالفه ، بل وتحامل عليه وعلى من قاله ، وقد وجد في النص القرآني نفسه ماينجده ويدعم رأيه .
-كما نحمد لابن حزم تجافيه الحديث عما أسماه الفقهاء "الاحتباس لحق الزوج "مقابل النفقة ، وكأننا أمام دابة عليها أن تعمل بأكلها ، فإن حبست نفسها للخدمة والاستمتاع وجبت لها النفقة وإلا فلا .
-هذا ، وأنوه إلى أن إشادتي برأي من أوجبوا النفقة بالعقد ، لايعني أنني أرى أن الزوجة يجب لها بالعقد كل الحقوق وعلى رأسها النفقة ، ولا واجبات عليها تجاه هذا الزوج الذي كلف بالإنفاق عليها .
فهذا كلام لايمكن أن يستقيم فقها ولاشريعة ، إذ القاعدة التي أقيمت عليها العلاقات الإنسانية -كل العلاقات الإنسانية -في شريعتنا هي العدل والقسط والإحسان .
-أما الحياة الزوجية الخاصة، فالعلاقة فيها مؤسسة على تلك القاعدة المنصوص عليها نصا بقوله تعالى " ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وقاعدة " وجعل بينكم مودة ورحمة "
-وإذا كانت هذه القاعدة الأولى" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف " تؤسس لمبدأ المساواة والتبادلية العادلة في الحقوق والواجبات ، فإن القاعدة الثانية " المودة والرحمة " تؤسس لمبدأ التسامح والتوسع غير المحدود في أن يتخلى كل طرف عن كثير من حقوقه عن حب وطواعية ، في سبيل إسعاد الطرف الآخر ، حتى لاتتحول الحياة الزوجية بينهما إلى معادلة حسابية ، قلما تستقيم أصلا في مجال العلاقات الإنسانية ، بل إنها كثيرا ماتفتح المجال للصدام والتنازع ، واتهام كل طرف للآخر بأنه يأخذ أكثر مما يعطي ، كل حسب تقديره لحقه مقابل حقوق الآخر .
فإعمال هذه القاعدة " المودة والرحمة " لامجال فيه مطلقا للأثرة والأنانية وحب الذات ، فضلا عن الرغبة في الاستخدام أو التملك أو نحو ذلك .
-كما أن من سنن الله الكونية في جميع العلاقات الإنسانية : أن كل حق مقابله واجب ، وعليه ، فلا يجب أن يوجد من يأخذ دائما ولامن يعطي دائما، وإذا حدث ووجد من هو كذلك ، اختلت قاعدة التعامل الإنساني ، وأصبحت قائمة على الظلم لاعلى العدل والقسط .
وحاشا شريعة الله العادلة ان تكون كذلك .