قول الإمام ابن حزم ببطلان الرجعة إذا كتمها الزوج ولم يعلم بها الزوجة :
بداية أقول : المستقر فقها وقضاء أن الزوج إذا طلق زوجه طلاقا رجعيا ، فإن من حقه إرجاعها إلى عصمته متى شاء مادامت في عدتها ، ودون اعتبار لإرادتها في ذلك ، عملا بظاهر قوله تعالى " وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا "
حيث وقف الفقهاء عند حدود قوله تعالى " وبعولتهن أحق بردهن " فقالوا : البعل في لغة العرب هو الزوج ، وهذا يعني ديمومة عقد النكاح بينهما ، فهو زوجها وهي زوجته ، ومن ثم فهو الأحق بإرجاعها إلى عصمته مادامت لم تنقض عدتها من الطلقة الأولى أو الثانية ، وعليه ، فالزوج هو صاحب القرار في الرجعة وفق رأي جمهور الفقهاء ، حتى حكوا الاجماع في ذلك .
قالوا : ويستحب فقط إعلام الزوجة
بالرجعة ليس إلا .
ولم نجد عناية من قبل جمهور الفقهاء بتأمل تتمة الآية ،أعني قوله تعالى " إن أرادوا إصلاحا " ولكن الفقيه الظاهري ابن حزم يرى في هذه التتمة مايؤكد وجهته في قوله بوجوب إعلام الزوجة بالرجعة ،وأنها تبطل بالكتمان ، قال : فإذا لم يعلمها الزوج ، لم يكن قد أراد إصلاحا ، بل أراد الفساد ، فليس مافعله ردا ولارجعة أصلا .
ويحمد للإمام ابن حزم كذلك محاولة ربطه بين هذا المعنى الذي استنبطه من هذه الآية ، وبين قوله تعالى " فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " فعدم إعلام الزوجة بالرجعة في رأيه ليس إمساكا بالمعروف ، ولم يرد بها الإصلاح ، وعليه فتبطل هذه الرجعة ، وفق رأي ابن حزم رحمه الله ، استنادا إلى الآيتين .
وأرى أنه مما يشهد لرأي ابن حزم هذا ، بل ويزيده تأكيدا ، التعبير بقوله تعالى " وبعولتهن أحق بردهن " فقوله تعالى " أحق " هذه الصيغة التي على جاءت على أفعل التفضيل ، إنما يعبر بها في العربية عن اشتراك شيئين أو شخصين في صفة ، مع زيادة أحدهما عن الآخر في تلك الصفة ، ولاتعني مطلقا التفرد بالشيء أو بالوصف .
فحين تقول لأحد : فلان أحسن منك ، فمعناه : هو حسن أكثر منك .
وهذا أمر لايجهله حتى العامة ،حين يتخاطبون فيما بينهم بهذه الصيغة من صيغ المفاضلة .
ينبني على ذلك : أن رأي الزوجة معتبر في شأن الرجعة ، ولايقف هذا الاعتبار في رأيي عن حد الإعلام فقط ، كما ذهب ابن حزم رحمه الله .
بمعنى أن الزوجة في الطلاق الرجعي لايجب أن تقهر أوترغم على الرجوع إلى زوجها وإن كرهت ، لاسيما وأن القاعدة الكلية الكبرى التي بنيت على أساسها جميع الحقوق والواجبات المتبادلة بين الزوجين ،مؤسسة على العدل والإحسان والمودة والرحمة .
وإجبار الزوجة على الرجعة بلا شك يخرم هذه المعاني الإنسانية كلها ، لاسيما إذا تعمد الزوج الإضرار أو التلاعب أو المكايدة ، كأن يكتمها الرد ، أو يؤخرها حتى قبيل إتمام عدتها ثم يراجعها نكاية ، على نحو ماكان يفعل أهل الجاهلية .
حيث روي أن الرجل في الجاهلية كان إذا أراد النكاية بمطلقته يقول لها " لاآويك ولاأدعك تحلين ، فتقول : كيف ؟ فيقول لها : أطلقك فإذا دنا أجل عدتك راجعتك فنزل قوله تعالى " الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان "
ولنتأمل هذه الآية كذلك " وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف ولاتمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولاتتخذوا آيات الله هزوا "
فإذا كان إمساك الزوجة بقصد الإضرار والاعتداء ،من اتخاذ آيات الله هزوا بنص الآية ، فكيف تحل إذن تلك السلوكيات الغاشمة المتلاعبة بالمطلقات وعدتهن ، بل وبمقاصد تشريع العدة ؟ اتكاء على أقوال فقهية تركز جل نظرها على صدر الآية فقط ، ولم تتأمل عجزها ، ولاالمقاصد العليا النابضة في ألفاطها ومعانيها ؟
فإما "إمساك بمعروف "ولايكون إلا بإعلام الزوجة وموافقتها ، أو "تسريح بإحسان " بأن ينتظر المطلق فلا يراجع حتى تنتهي العدة ، فتكون زوجته أملك لنفسها ببينونتها منه ، ثم عليه أن يحرص على توفيتها حقها من نفقة ومتعة ومؤخر صداق الخ
وأعتقد أنه من النخوة، بل ومن كمال الرجولة أن لايقبل الزوج المطلق مجرد فكرة استئناف الحياة مع زوجة لاتحب الحياة معه، فكيف بإرغامها على ذلك ؟
وهكذا هي شريعتنا الإنسانية الرحيبة ، دائما تتسع في كل تفاصيلها إلى الأخذ بمبدأ الإحسان ، وليس فقط بمبدأي الحق والعدل ومافي معناهما .
وسواء أكان إعلام الزوجة بالرجعة حقا لها تبطل الرجعة بكتمانه -حسب رأي ابن حزم - أم كان مستحبا فقط ولاتبطل الرجعة بكتمانه- حسب رأي الجمهور - فإن سلوك التلاعب برجعة المطلقات ، إذا فشا مجتمعيا حتى شكل ظاهرة تنبيء عن استهتار بالغ بهن وبحقوقهن ، كان من حق السلطة التشريعية أن تتدخل بسن ماتراه مناسبا من التشريعات الرادعة عن هذا التلاعب ، فالضرر يجب أن يزال ، ولاضرر ولاضرار .
والقاعدة : " لولي الأمر أن يحظر المباح " يعني إذا أسرف الناس على أنفسهم فأساءوا استخدامه ، خاصة إذا وصل إلى حد الإضرار بالصالح العام .
ولهذه القاعدة العديد من التطبيقات في فعل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده ، وصيغت في بيانها العديد من الدراسات والأبحاث العلمية القيمة ، وألمح إليها بعض الأصوليين في تصانيفهم .
وقد تطرقت إليها في بحثي " اختلاف الفتوى باختلاف تعلق الحكم بالفرد وتعلقه بالأمة تأصيلا وتطبيقا "
والبحث منشور ورقيا واكترونيا.
واللهم اكفنا شر سراق الجهد والعرق .