تحولت قضية مقتل الطبيبة النفسية بان زياد طارق إلى قضية رأي عام، وفضحت هشاشة حماية المرأة في العراق. فقد وُجدت بان في منزلها بمدينة البصرة، تاركة على جدار الحمام بدمها عبارة قصيرة لكنها مرعبة: “أريد الله”. كلمات بدت محمّلة بالغموض والرهبة، طرحت تساؤلات لا تنتهي: هل كانت صيحة استغاثة أخيرة؟ أم محاولة لتوقيع قسري على جريمة قتل أُريد لها أن تبدو وكأنها انتحار؟
في البداية، سعت بعض الجهات الرسمية إلى تبنّي رواية الانتحار، مبرّرة ذلك بمعاناة بان من ضغوط نفسية. غير أن تفاصيل متلاحقة قلبت الرواية رأسًا على عقب، لتتحول قصتها من خبر عابر إلى قضية وطنية تهزّ الوجدان العراقي.
لم تكن بان مجرّد اسم في الأخبار. فقد عرفها طلاب الجامعة كفتاة متفوقة، هادئة، محبوبة، تحمل حلمًا أكاديميًا وطموحًا إنسانيًا في خدمة مجتمعها. تخصّصت في الطب النفسي إيمانًا منها بأهمية الدعم النفسي للمرضى، خاصة النساء اللواتي يعانين من آثار الحروب والعنف. كانت تحلم بإنشاء مركز علاجي خاص لدعم النساء المعنّفات، لكن هذا الحلم توقف فجأة في ليلة غامضة، وأصبح اسمها مرتبطًا بقضية عدالة أكثر من ارتباطه بالطب.
المشهد الأول للقضية كان العثور على جسدها غارقًا في الدماء، يحمل كدمات وجروحًا عميقة، بعضها يصل إلى العظم. أما العبارة المكتوبة على الجدار، فقد انقسمت التفسيرات بشأنها بين من رأى فيها لحظة روحانية صافية قبل الرحيل، ومن اعتبرها محاولة متعمدة لتضليل التحقيق، وإقناع الرأي العام بأن الوفاة نتيجة رغبة شخصية.
ومع توالي الأيام، ظهرت تفاصيل مريبة أطاحت بفرضية الانتحار. فقد تعطلت كاميرات المراقبة في المنزل قبيل الحادثة مباشرة، ثم عادت للعمل بعده. كما جرى تنظيف مسرح الجريمة ونقل الجثة قبل اكتمال الفحص، إضافة إلى ظهور إصابات لا تتناسب مع الانتحار، مثل آثار الخنق والكدمات في أنحاء متفرقة من الجسد. هذه الثغرات جعلت القضية أكثر تعقيدًا، ودفعت بمطالبات واسعة لإجراء تحقيق نزيه وشفاف.
تكشف هذه القضية جانبًا مظلمًا من واقع النساء في العراق، حيث يمكن أن يختفي العنف خلف الصمت أو التبريرات السطحية. فرخص حياة المرأة يظهر في ضعف الحماية القانونية، والتساهل في التحقيقات، والبحث عن أسرع الروايات لإغلاق الملفات حتى لو كانت الأدلة تشير إلى عكسها. وفي مجتمع ما زالت المرأة فيه تواجه حروبًا على أكثر من جبهة، تصبح كل مأساة مثل مأساة بان اختبارًا حقيقيًا لمدى صدق الشعارات المرفوعة حول حماية الحقوق.
لكن قصة بان لم تمر مرور الكرام. فقد انتشرت صورها وعبارتها الأخيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، وتحولت إلى رمز احتجاجي يجمع الأطباء والمحامين والناشطين، الذين خرجوا مطالبين بكشف الحقيقة، ليس فقط من أجلها بل من أجل كل امرأة قد تواجه المصير ذاته وسط صمت رسمي واجتماعي. المظاهرات التي شهدتها البصرة، والبيانات الحقوقية، وحملات التضامن، أجبرت السلطات على إعادة النظر في مسار التحقيق، لتتحول القضية إلى جرس إنذار يقرع في وجه المجتمع.
“أريد الله” لم تكن مجرد كلمات مكتوبة على جدار، بل رسالة صادمة تكشف أن حياة المرأة في العراق ليست محمية بما يكفي. رحيل بان اختبار لضمير المجتمع، وامتحان لقدرة الدولة على مواجهة العنف وإنصاف الضحايا. ورغم أنها غادرت جسدًا وروحًا، فإن اسمها باقٍ شاهدًا على أن الصمت لا يحمي أحدًا، وأن العدالة لا تُمنح بل تُنتزع.
تجاوزت عبارتها الأخيرة حدود كونها دليلًا جنائيًا لتصبح رمزًا يتداول على نطاق واسع. فهي تحمل أبعادًا متداخلة: صيحة استغاثة روحية في لحظة ألم، واحتجاجًا غير مباشر على غياب العدل الأرضي، وربما محاولة مقصودة لتزييف الحقيقة إذا كانت قد كتبت قسرًا. لكن ما هو مؤكد أن وقعها على الرأي العام كان هائلًا، إذ جمعت بين الغموض والصدق والألم، فتحولت إلى أيقونة تُرفع في اللافتات والمنشورات كصرخة طلب للعدالة.
قال رسول الله ﷺ: «اجتنبوا السبع الموبقات»… وذكر منها «قتل النفس التي حرّم الله إلا بالحق».






































